حرب العدوان الصهيوني على غزّة التي بدأت شهرها الثالث، واستمرار حصد طائرات ومدافع وسفن جيش الاحتلال لأرواح المدنيين الفلسطينيين، أطفالًا ونساءً، وقتلهم جوعًا ومرضًا وإجبارهم على النزوح المتواصل بلا خشية من حساب أو رد فعل دولي صارم، يؤكد مجددًا، أنّ ذلك العالم "متعدد الأقطاب" لم ينشأ بعد، وأنه لم تبزغ حتى الآن قوى عظمى دولية قادرة على مواجهة واشنطن شريكة الكيان الصهيوني في هدر أرواح الفلسطينيين، وإجبارهما على الوقف الفوري لهذه المجزرة والإبادة الجماعية.
في العالم ثنائي القطبية وزمن الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق، كانت القوتان العظميان المتنافستان تخوضان ما يوصف بـ"حروب الوكالة" في مناطق مختلفة من العالم عبر حلفائهما الذين يقدمان لهم الدعم العسكري لكي لا تصل الأمور إلى حد المواجهة المباشرة بين قوتين تمتلكان أسلحة نووية تكفي لتدمير العالم عدة مرّات.
دعم الاتحاد السوفيتي الدول ذات النهج الاشتراكي في المنطقة العربية وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بينما وقفت الولايات المتحدة عسكريًا واقتصاديًا خلف أنظمة منافسة تتبنى النهج الرأسمالي وتحارب من أجل الحد من انتشار الشيوعية.
ولكن كانت هناك خطوط حمراء حتى في تلك الحروب بالوكالة، وكان يكفي أن تلوّح أي من الدولتين بالخيار النووي أو ترفع درجة الاستعداد لكي يضطر الطرف الآخر إلى التراجع في اللحظات الأخيرة خطوة إلى الوراء.
لا الصين ولا روسيا لديهما الاستعداد لخوض مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة أو التلويح بالتصعيد العسكري ضدها
لم يكن ذلك حدثًا يوميًا على مدى نحو نصف قرن من الحرب الباردة، ولم يضطر أي من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي السابق لاستخدامه سوى مرّتين أو ثلاث مرّات طوال تلك الفترة، كما كان الحال إبان ما يعرف بأزمة الصواريخ الكوبية، عندما سعت موسكو لنشر صواريخ في كوبا بالقرب من الحدود الأمريكية، ولكن كذلك إبان حرب أكتوبر/تشرين 1973 بعد أن لوّحت موسكو بإرسال قوات إلى مصر من أجل إجبار الكيان الصهيوني على القبول بوقف إطلاق النار.
الآن، لا الصين ولا روسيا لديهما الاستعداد لخوض مواجهة مباشرة مع الولايات المتحدة أو التلويح بالتصعيد العسكري ضدها لدعم حلفاء إقليميين متنافسين، طالما أنّ مصالحهما لم تتعرّض للتهديد بشكل مباشر كما هو الحال بالنسبة لأوكرانيا مثلًا في حالة روسيا، أو تايوان بالنسبة للصين.
ويبدو أنّ مفهوم تعدّد القطبية، بفرض صحته، يقتصر حتى الآن على الجوانب الاقتصادية فقط، وأنه إذا حرمت الولايات المتحدة بعض الدول من فوائد التعاون معها، فيمكن لتلك الدول البحث عن بدائل لدى روسيا والصين، بما في ذلك مجالات التسليح والتكنولوجيا ولو من باب المكايدة لو أرادت بعض الدول إبداء استيائها من طريقة تعامل واشنطن معها، كما هو حال العديد من الدول العربية، بما في ذلك مصر ومؤخرًا بعض الدول الخليجية الثرية المعروفة بتحالفها التاريخي مع الأمريكيين.
وبالقطع فإنه لا يمكن أن نطالب الروس والصينيين أن يكونوا "ملكيين أكثر من الملك"، ولا شك أن لسان حالهم سيكون: طالما أنّ الدول العربية المجاورة والداعمة تاريخيًا للفلسطينيين لم تأخذ أية مبادرات عملية ومباشرة تعكس من خلالها رفضها للمجازر الصهيونية الحالية بدعم مباشر من الولايات المتحدة، فلماذا يكون مطلوب منهم هم أن يخوضوا تلك المواجهة نيابةً عن العرب؟.
منظمة الصحة العالمية أصدرت بيانًا مؤخرًا حذرت فيه من "كارثة إنسانية" وشيكة في غزّة، وأنه لا معنى ولا منطق مطلقًا في التوجيهات الصهيونية المتوالية لسكان القطاع المنكوب بالنزوح المتواصل لحماية أرواحهم بعد مقتل ما يزيد عن 17 ألفًا وإصابة نحو 60 ألفًا آخرين، لأنه لا يوجد أساسًا مكان آمن في غزّة. والأسوأ أنه يتم إجبار الفلسطينيين على النزوح الداخلي من الشمال والجنوب إلى مناطق تقترب من الحدود مع مصر، وتحديدًا مدينة رفح التي لم تعد تحتمل استقبال أي قادمين جدد وتفتقد أبسط المستلزمات المطلوبة لحياة آدمية من مياه وطعام وخيام وأغطية مع بدء موسم الشتاء القارس.
العالم الذي قد تستطيع فيه قوة عظمى إجبار قوة أخرى مماثلة على التراجع ما زال بعيد المنال
ورغم تلك المأساة يقف العالم موقف المتفرّج، لأنّ الولايات المتحدة ما زالت عمليًا هي القطب الواحد القادر على تحريك حاملات الطائرات لحماية مصالحها وحليفتها الاستراتيجية في المنطقة وإمدادها بسخاء بكل أنواع الأسلحة المتطورة.
وأقصى ما قد تطمح له الحكومات العربية من "الأقطاب" المنافسة لأمريكا هو أن تستخدم موسكو وبكين حق النقض "الفيتو" الذي يتمتعان به في مجلس الأمن من أجل منع تمرير قرارات أمريكية تدعم الجانب الصهيوني فقط، بجانب بيانات الشجب والإدانة واستغلال وانتقاد الهيمنة الأمريكية على العالم وتبني المعايير المزدوجة وغيرها من المصطلحات الساخنة التي لا تغني ولا تسمن من جوع ولا توقف قتل الأطفال والنساء الفلسطينيين في غزّة.
أما العالم الذي قد تستطيع فيه قوة عظمى قوية إجبار قوة أخرى مماثلة على التراجع وتغيير سياستها في دعم جرائم قتل يرتكبها جيش الاحتلال الصهيوني في بث يومي وحي على مدار الساعة لأننا نعيش في عالم "متعدد الأقطاب" بالفعل، فهو أمر ما زال بعيد المنال ولن يتحقق قريبًا.
(خاص "عروبة 22")