وهكذا، اللقاء الذي جمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره الروسي فلاديمير بوتين الأسبوع الماضي في ألاسكا لبحث نهاية الحرب الروسية - الأوكرانية، ثم اجتماع ترامب في البيت الأبيض مع بعض الزعماء الأوروبيين والرئيس الأوكراني فلاديميرو زيلنسكي خلال الأسبوع الجاري، لا يعني نهاية هذه الحرب التي اندلعت خلال شباط/فبراير 2022. بل استمرت القوات الروسية في شن هجمات مرعبة خلال الأيام الأخيرة علاوة على السيطرة على مزيد من الأراضي.
ولم تعد الهجمات الروسية تستعمل فقط الصواريخ فرط صوتية والقصف بالطائرات المقاتلة خاصة من عائلة سوخوي وتوظيف الطائرات بدون طيار خاصة الدرون الأيراني "الشاهد"، بل أوردت جريدة "كييف بوست" أن روسيا عادت لاستعمال القنابل من نوع فاب 500 الشديدة الانفجار ضد البنيات التحتية للمدن الأوكرانية. وتتوجه الأنظار إلى الرأي العام الأوكراني لمعرفة مدى استعداده لقبول مفاوضات سلام مع روسيا مقابل التنازل عن أراض أوكرانية لموسكو. ومقترح التنازل عن أراض أوكرانية لصالح موسكو ليس وليد الأسابيع الأخيرة، بل هو مطروح منذ بداية الحرب بحكم أن البرلمان الروسي صادق وقتها على ضم شرق أوكرانيا.
والأراضي التي تسيطر عليها روسيا حاليًا هي كما يلي: المناطق الشرقية، بما في ذلك معظم مقاطعات لوهانسك ودونيتسك (دونباس)، حيث تسيطر روسيا على حوالي 88 في المئة من الأراضي. ثم أجزاء كبيرة من المناطق الجنوبية، ولا سيما خيرسون وزابوريزهيا، التي تحتلها روسيا وتعتبرها مضمومة بشكل غير قانوني منذ عام 2022، وشبه جزيرة القرم، التي ضمتها روسيا في عام 2014، ولكن أوكرانيا تطالب بها، ومناطق أصغر حول مقاطعات خاركيف وسومي وميكولايف ودنيبروبتروفسك الخاضعة للسيطرة الروسية.
وفي الكثير من الحروب والقضايا المصيرية، لا يتعلق القرار فقط بالمفاوضات الخارجية بل تأخذ السلطة بعين الاعتبار رأي الشعب مخافة وقوع تمرد أو ردة فعل على الاتفاقيات الخارجية. ويعتبر التنازل عن الأرض لصالح دولة أجنبية هو التنازل عن السيادة الوطنية، لهذا فهو ملف شائك. وفي حالة أوكرانيا، خلال السنة الماضية، كانت نسبة 10 في المئة من الأوكرانيين تقبل بهذا المقترح مقابل السلام، وارتفعت تدريجيا لاسيما في ظل وجود سياسيين وإعلاميين يدافعون عن هذا الطرح بنوع من الاحتشام ومقابل شروط أهمها ترك الأراضي لروسيا من دون الاعتراف بسيادة موسكو عليها.
وعلى ضوء ارتفاع وتيرة المفاوضات المتعددة الأطراف، جاء في استطلاع رأي أجراه المعهد الدولي لعلم الاجتماع في كييف ومصادر أخرى في أوكرانيا في تموز/يوليو وآب/أغسطس 2025، النتائج التالية حول مقترح التنازل عن الأراضي مفاجئة نسبيا. في هذا الصدد، تؤيد غالبية الأوكرانيين (69 في المئة) إنهاء الحرب من خلال مفاوضات سلام. ومع ذلك، فإن غالبية الأوكرانيين يعارضون أي تنازلات إقليمية في إطار أي اتفاق. يوضح الاستطلاع أن 38 في المئة يؤيدون اتفاقًا تحتفظ فيه روسيا بالسيطرة على الأراضي المحتلة، ولكن لا يتم الاعتراف بهذه الأراضي دوليًا، بينما يؤيد 54 في المئة اتفاقا تحصل فيها أوكرانيا على ضمانات أمنية موثوقة من أوروبا والولايات المتحدة، من دون اعتراف روسي بالأراضي المحتلة.
على العكس من ذلك، يعارض 76 في المئة بشكل قاطع أي اتفاق يستجيب لمطالب موسكو، بما في ذلك التخلي عن الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي والاعتراف بالأراضي على أنها روسية. ووسط كل هذا، انخفض التأييد لمواصلة القتال حتى النصر انخفاضًا حادًا في السنوات الأخيرة، من 73 في المئة في عام 2022 إلى 24 في المئة في عام 2025. وعليه، قراءة لمختلف التحاليل لدراسة الرأي العام حول التنازل عن الأراضي، يتم الوقوف على بعض النتائج الهامة جدا: على رأسها أن تأييد مقترح التنازل عن الأراضي هو أعلى وسط سكان المنطقة الشرقية التي تشهد الحروب وكذلك الجنوبية.
وعمليا، هي المناطق التي تعاني من صعوبة العيش نظرا لأنها متضررة كثيرا من الحرب، وهي التي تسجل دمارا عاليا مقارنة مع وسط وغرب البلاد. وعلاقة بالفئات العمرية، يسود وسط الأشخاص الأكبر سناً، الأكثر تعرضاً للآثار المباشرة للصراع (فقدان الأحباء، الصعوبات الاقتصادية) نوع من الاستعداد لقبول هذا المقترح من أجل تحقيق سلام سريع. بينما وسط جيل الشباب الذي ولد بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، فهو أكثر قومية وأشد معارضة لأي تنازلات لصالح موسكو. علاوة على ذلك، يعتقد ثلاثة أرباع الأوكرانيين أن الدول الأوروبية يجب أن تلعب دورًا مهمًا في مفاوضات السلام لأنهم يثقون في الأوروبيين أكثر من الأمريكيين بعد وصول ترامب إلى البيت الأبيض.
ومن خلال عدد من المقالات في كبريات الصحف الأوكرانية مثل "كييف بوست" و"أوكرنيسكا برافدا" و"ميرور ويكلي" بالانكليزية يتضح أن النسبة المئوية من الأوكرانيين الذين يعتقدون في ضرورة إيحاد حل للحرب ولو عبر التنازل مؤقتا عن الأراضي في ارتفاع ملحوظ، ومن ضمن أبرز العوامل نجد:
أولا: الخوف الشديد من انهيار أوكرانيا كوطن بعدما فقد الكثير من مقوماته نتيجة هجرة نسبة لا تقل عن 15 في المئة من الساكنة وفقدان أكثر من 20 في المئة من الأراضي، وقد تفقد أوكرانيا أكثر نظرا لبدء تقدم روسيا نحو الوسط. ومن أهم الطروحات المقبلة، ما صدر عن كيريل بودانوف، رئيس إدارة الاستخبارات الرئيسية، عندما قال للبرلمانيين في بداية السنة الجارية إن أوكرانيا قد تتوقف عن الوجود إذا لم تبدأ محادثات السلام مع روسيا بحلول الصيف.
ثانيا، شعور نسبة هامة من الأوكرانيين بأن الغرب أساء تقييم قدرات وتصرفات موسكو، وهي التي غزت جزيرة القرم سنة 2014 ومستعدة لمزيد من احتلال أراضي أوكرانيا. وأن الغرب لم يكن سريعا في دعم أوكرانيا بالسلاح والدعم الدبلوماسي عند نشوب الحرب، وأن هذا الغرب خاصة أوروبا لم تعد مستعدة لتقديم مزيد من الأسلحة لأنها لم تعد تتوفر على مخزون كبير، بل فقط ما يؤّمن أمنها القومي في حالة اندلاع حرب كبرى مع روسيا. وترى أصوات من أوكرانيا أن الغرب مستعد لاتفاق مع موسكو على حساب وحدة البلاد، ومنها ما صدر عن بافلو غرود ناشط سياسي يرأس تجمع الأوكرانيين في العالم بتعليقه أن "قمة ألاسكا" هي قمة لمطامح بوتين وترامب على حساب القانون الدولي ومصالح أوكرانيا.
وهكذا، قد يكون الارتفاع المحتشم والتدريجي وسط الأوكرانيين بمبدأ الأرض مقابل السلام، أي التنازل عن الأراضي الشرقية لصالح روسيا من دون الاعتراف بسيادة موسكو عليها، مقدمة لإنهاء الحرب ولو مؤقتا لسنوات.
(القدس العربي)