ما هي صورة ومكانة أوروبا لدى الولايات المتحدة، وخصوصاً الإدارة الأمريكية برئاسة الرئيس دونالد ترامب؟. قد يبدو السؤال غريباً، لكن الذي يدعو لطرحه هذه الأيام صورة صحفية انتشرت كالنار في الهشيم يوم الاثنين الماضي جمعت دونالد ترامب، بعدد من قادة الدول الأوروبية.
من بين المقولات الثابتة التي يسمعها ويتعلمها طلاب كليات ومعاهد الإعلام والصحافة أن الصورة بألف كلمة. ولا أعرف هل لا تزال الصورة بألف كلمة أم أن السعر ارتفع مع كل السلع التي ارتفعت عالمياً، بحيث إن الصورة صارت بمليون أو حتى ربما بتريليون كلمة؟! صورة يوم الاثنين الماضي ربما ستدخل تاريخ كتب ومناهج الصحافة الدولية، باعتبارها خير تعبير عن واقع سياسي محدد الانتشار. في ظني الشخصي أن هذه الصورة يمكنها أن تغني عن مئات بل وآلاف المقالات البحثية وبرامج التحليل السياسي، لأنها تقول كل شيء تقريباً.
الصورة لمن لم يشاهدها يبدو فيها ترامب وهو جالس في مكتبه بالبيت الأبيض وأمامه اصطف أهم قادة الدول الأوروبية وفي مقدمتهم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، والمستشار الألماني، فريدريش مريتس، ورئيسة الوزراء الإيطالية، جورجيا مليوني، والرئيس الفنلندي، ألكسندر ستاب، ورئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، والأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، إضافة إلى الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينيسكى.
طريقة جلوس ترامب مع ضيوفه كانت تشبه طريقة جلوس ناظر أو معلم مدرسة قرر أن يصف بعض التلاميذ أمامه كي يوجه لهم رسالة لوم أو تقريع، أو هي صورة رئيس مجلس إدارة متغطرس قرر أن يؤنب العاملين لديه لأنهم لا يسمعون الكلام أو لا ينفذون الأوامر بصورة صحيحة، أو صورة واعظ وخطيب قرر أن يجمع بعض صغار المريدين ليلقي عليهم المواعظ والدروس.
من صمم طريقة الجلوس هذه أراد أن يجعل هناك فارقاً في الدرجة والقيمة والأهمية بين صاحب البيت والضيوف، خلافاً لما هو مستقر مثلاً في قواعد البروتوكول بين الدول المختلفة حينما يجلس المسؤولان أو الوفدان حول طاولة مستديرة لا يبدو فيها رئيس ومرؤوس، أو حول طاولة مربعة أو مستديرة، بحيث يجلس كل طرف أو وفد أمام الآخر بطريقة متساوية.
بل إنه ترك ضيوفه الأوروبيين لمدة 40 دقيقة ليهاتف نظيره الروسي. ومن يراجع طريقة استقبال وجلوس ترامب مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في آلاسكا الأمريكية سوف يدرك هذا الفارق بوضوح. ترامب بالغ في إظهار الود والمجاملة والحميمية مع بوتين، وابتسم له كثيراً، وربت على كتفيه وأصر أن يركب معه سيارته، وخلال جلسة المحادثات الرسمية كانت طريقة الجلوس للوفدين تعكس الندية والمساواة، وليس التعالي والغطرسة.
صورة يوم الاثنين التي أثارت نقاشات وجدالات وتعليقات كبيرة في وسائل الإعلام العالمية، ووسائل التواصل الاجتماعي، كانت معبرة عن الواقع إلى حد كبير.. رئيس أمريكي متغطرس، وقارة أوروبية مأزومة بشدة غير مسبوقة منذ عشرات السنين. هذا واقع تعيشه منذ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير الماضي، وهو واقع مستمر منذ عقود طويلة، لكن غالبية الرؤساء الأمريكيين كانوا أكثر كياسة ودبلوماسية في تغليف هذا الواقع بطريقة رقيقة لا تحرج الأوروبيين.. لكن ومع مجيء ترامب فقد أصر على أن يخرج الأمر من الغرف المغلقة إلى كاميرات التلفزيون.
كان البعض يعتقد أن ترامب فعل ذلك فقط مع زيلينيسكي حينما حشره في زاوية ضيقة بالبيت الأبيض في نهاية يناير الماضي وعنفه ووبخه وطرده فعلياً وليس مجازياً، بل وأكل الوجبة التي كانت مخصصة له! ثم كرر ذلك بصورة أسوأ مع بعض الرؤساء الأفارقة الذين أجلسهم أمامه وكأنهم أطفال في الحضانة.
لم يكن أحد يتصور أن يتكرر الأمر مع قادة الدول الأوروبية الكبرى، خصوصاً بريطانيا وألمانيا وفرنسا.. لكنه كرر نفس الصورة شديدة الرمزية. كل ما سبق يفترض أنه يتعلق بالشكل، لكن الأمر نفسه كان في المضمون، فترامب يتبنى تقريباً مواقف بوتين في الأزمة الأوكرانية إلى حد كبير.. حصل على صفقة المعادن النادرة من أوكرانيا نظير ثمن الأسلحة التي قدمها سلفه جو بايدن، ثم أجبر الأوروبيين على دفع أثمان كل صفقات السلاح اللاحقة لأوكرانيا.
والأخطر أنه أعلن أكثر من مرة ضرورة تنازل أوكرانيا عن بعض أراضيها لروسيا، وليس شبه جزيرة القرم فقط، إضافة إلى إصراره على عدم إمكانية انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، أو إمكانية مساهمة الناتو في أي ضمانات أمنية كبيرة مستقبلية لأوكرانيا. الأوروبيون لم يملكوا إلا استجداء واستعطاف ترامب، من أجل أن يكون موقفه منحازاً لأوكرانيا أو حتى متوازناً.. لكن كل ذلك لم يحدث، والأيام المقبلة سوف تخبرنا عن معانٍ جديدة لصورة يوم الاثنين الماضي.
(البيان الإماراتية)