حافظت إسرائيل على دورها في الهدنة وأوقفت قصف غزة ليتم تحرير الرهائن. وتعاطفت وسائل الإعلام الغربية مع الموقف بترقب متعمد وقلق صادق ومواساة جارفة، حتى تم إطلاق سراح الرهائن ليهيمن على الإعلام الغربي هالة من الابتهاج لساعات طوال.
سعى المراسلون الغربيون إلى تسليط الضوء على آدمية الإسرائيليين والمعاناة التي من المحتمل أن يكون الرهائن قد تعرضوا لها على مدى ٤٩ يوما. قدم المراسلون صور الرهائن وسمُّوا الرهائن بالاسم ليضفوا طابعا إنسانيا عليهم. تحدث الإعلاميون إلى أقارب الرهائن واستشهدوا بأفراد أسرهم وتكلموا عن حياتهم قبل الحرب. وذهبوا إلى أبعد من ذلك وتكلموا بإسهاب عما سيتعرض له هؤلاء بعد تحريرهم، وما ينبغي ألا يُسألوا عنه، وتحدثوا بالتفصيل عن الإجراءات الطبية التي سوف يواجهونها واحتياجاتهم سواء النفسية أو العاطفية. كما رسم الصحفيون خرائط للطريق الذي سلكه الرهائن من خان يونس إلى حدود رفح في الأراضى المصرية، إلى إسرائيل حيث خضعوا لفحص طبي أوّلي، وركزوا على مشاهد لم شملهم مع عائلاتهم.
وبقدر ما تعاطفت مع الرهائن المحررين وشعرت بسعادة غامرة بلم شملهم مع عائلاتهم، إلا أن التوازن كان مفقودا. ما فعله الإعلام الغربي هو جعل المشاهدين يتواصلون مع الرهائن من خلال الحديث عن حياتهم وتجاربهم المؤلمة، أما السجناء الفلسطينيون الذين كانوا على وشك إطلاق سراحهم فلم يكن لديهم أسماء أو صور أو قصص للتحدث عنها، الأمر الذي أفقدهم الآدمية. إن الأطفال الفلسطينيين الخمسة آلاف الذين ماتوا كانوا مجرد أرقام وإحصائيات وليسوا بشراً. وهذا هو أسلوب وسائل الإعلام الغربي طوال الوقت، وهو أمر مقزِّز.
بمجرد معرفتك بتفاصيل شخص ما يصبح إنسانا، أما من لا تعرفه فيظل مجهول الهوية وأقل قيمة. تساءل المعلق الأمريكي خوان كول في تغريدة: لماذا يتم إضفاء الطابع الإنساني على الرهائن الإسرائيليين المفرج عنهم كآباء وأطفال، ولكنّ الرهائن الفلسطينيين المفرج عنهم لا يتم منحهم أسماء أو عائلات ويطلق عليهم اسم ذكور وإناث كأنهم حيوانات. إن الخلل في التقارير الصحفية كان صارخا، وإن الخطاب العنصري متعمد ومحسوب.
لقد تبنت وسائل الإعلام الغربية موقفاً مؤيداً لإسرائيل في الحرب الحالية، ويقول معهد الدراسات الفلسطينية إن هذا الخطاب العنصري يهدف إلى تجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم من أجل تحييد الغضب الشعبي إزاء ما قد يرقى إلى أسوأ تطهير عرقي منذ نكبة عام ١٩٤٨، وما يشكل إبادة جماعية على أيدي أحد أكثر الجيوش تقدمًا في العالم، وكل ذلك بينما القوى العالمية تتفرج ولا تفعل شيئًا. لكن وسائل الإعلام الغربية تردد ما يقوله الساسة الغربيون. عندما يقوم زعماء الدول الغربية الكبرى مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وغيرهما بتشجيع العدوان وإبادة الفلسطينيين في أراضيهم المحتلة، فليس من المستغرب أن نسمع نفس النوع من الخطاب من وسائل الإعلام.
لم يكن الخلل الهائل في التوازن في التصوير الحقيقى للحياة الإنسانية للفلسطينيين أمام الإسرائيليين أكثر وضوحًا من أي وقت مضى. في كل مرة تجري قناة تليفزيونية مقابلة مع متحدث رسمي عربي أو فلسطيني، فإن السؤال الأول هو ما إذا كان يدين أعمال حماس في ٧ أكتوبر الماضي. سُئل السفير الفلسطيني لدى المملكة المتحدة، حسام زملط، من خلال مقابلة نفس السؤال، فأجاب: دائمًا الإعلام مهووس بإلقاء اللوم على الضحية، المحتل، المستعمر، المحاصر، لا أراك تطلب منها (سياسية إسرائيلية فى نفس المقابلة) أن تدين مقتل عائلات بأكملها التي ذكرها مراسلك للتو.
المعايير المزدوجة صارخة. يتم استخدام كلمات تجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم. يُقتل الإسرائيليون بينما يموت الفلسطينيون. الفلسطينيون إرهابيون بينما الإسرائيليون لهم الحق في الدفاع عن أنفسهم. ما تقوله المصادر الإسرائيلية هو حقائق بينما حماس والمصادر عربية تزعم أو تدعي. ولا تذكر أي وسيلة إعلام غربية المظالم أو عنصرية إسرائيل؛ ولا تتحدث عما حدث عام ١٩٤٨ باعتباره السبب الرئيسي للمعضلة الحالية. الكلمات قوية ومتلاعبة، وتستخدمها وسائل الإعلام الغربية بمهارة للتضليل.
وغيرت صحيفة نيويورك تايمز عنوانها الرئيسي بعد الهجوم على مستشفى الشفاء. كان العنوان في الأصل هجوما إسرائيليا، ثم غُيِّر إلى هجوم على المستشفى في غزة، ثم إلى انفجار في مستشفى في غزة. لا يمكن إنكار محاولة تخفيف الذنب. والعنوان الرئيسي لصحيفة واشنطن بوست عن نفس الهجوم هو مخاوف من مقتل المئات في مستشفى غزة، مما يجعل الأمر يبدو كما لو أن الفلسطينيين ماتوا بمحض ظروف ما وليس بسبب الهجوم على المستشفى.
هل سيأتي يوم تصبح فيه وسائل الإعلام الغربية محايدة وتتجنب التضليل المتحيز وتقدم تقاريرها بنزاهة؟ أشك في ذلك.
("الأهرام") المصرية