يبدو مسرح الأحداث دامياً، والحديث عن تسوية القضية الفلسطينية يلوح من بعيد كنوع من الترف الذي لا يمكن تحقيقه في المستقبل القريب. فالدماء، والأشلاء، والأحزان والدموع، هي كلها، سيدة الموقف، بسبب ما ارتكبته إسرائيل من جرائم وفظائع لم نر لها مثيلاً في التاريخ المعاصر، ومع ذلك فإنني أجازف بطرح رؤية سياسية تفتح الأبواب نحو أفكار يمكن أن تؤدي إلى حقن الدماء، إذ يكفي ما جرى ليثبت أن إسرائيل لا تتصرف كدولة احتلال، ولكن تتعامل مع الفلسطينيين بجبروت القوة الأمريكية، والدعم أللا محدود من جانب واشنطن في ظل حكم رئيس أمريكي ضعيف، لا يعنيه من مستقبل المنطقة شيئاً، مع عمره المتقدم، ورؤيته المحدودة التي سمحت له بأن يحضر مجلس الحرب الإسرائيلي أثناء زيارته للدولة العبرية، وتشجيعه للمشاعر الانتقامية لدى أصحاب شهوة الدم، والمضي في التدمير والتخريب وإزهاق أرواح الأبرياء، في ظل تدفق الدعم السياسي الغربي لإسرائيل.
وهنا أطرح بعض الأفكار على استحياء، فالظرف صعب، والوضع معقد، والنفوس معبّأة بشحنات قوية من الألم البشع، والحزن الدفين:
أولاً: إنّ أحداث غزة الأخيرة يمكن أن تكون الكابوس الأعظم في تاريخ الشعب الفلسطيني، ولكنها يمكن أن تتحول أيضاً، إلى طاقة إيجابية تحول دون تكرار هذه المآسي، وأنا أرى رغم المناخ المأساوي الذي يعيشه الفلسطينيون، أنه يجب التقدم بطرح سياسي يبدو في مظهره ومخبره عادلاً شاملاً لكل الأطراف، وعلى الصعد كافة، إلا أنني أُطالب الأشقاء الفلسطينيين بأن يلملموا جراحهم في أسرع وقت، وأن يرتفعوا فوق الأحزان والآلام والدموع والدماء، حيث تُعيد حركة حماس النظر في برنامجها، الفكري والسياسي، واتجاهها الوطني الخالص، بحيث تستوعب الرأي العام العالمي في أكثر الظروف الدولية تعاطفاً مع الشعب الفلسطيني المناضل، صانع المعجزات، الذي دفع أغلى فاتورة للدم عبر تاريخه المعاصر.
وسوف يقول قائل: إن حركة حماس قد عدلّت من برنامجها السياسي عام 2017، وأوحت في إشارة واضحة إلى اعترافها بدولة إسرائيل، ولكن لم يشفع ذلك التطور المعتدل، فكانت المذابح والمجازر وحمامات الدم، هي كلها، الرد الإسرائيلي.
ثانياً: إن جرائم إسرائيل وأساليبها أصبحت مكشوفة أمام المجتمع الدولي، بعد أن مارست كل وسائل العنف، وأصبحت بحق النموذج الأول لمفهوم (إرهاب الدولة)، وبذلك فنحن أمام نمط جديد من أنماط الاستعمار الاستيطاني في أبشع صوره، وهنا أطالب، بشدة، بتوثيق جرائم إسرائيل الأخيرة المحددة بشخصيات معروفة، بدءاً من نتنياهو، رئيس الوزراء، مروراً بوزير دفاعه، وصولاً إلى قيادات اليمين المتطرف في الحكومة الحالية، وذلك لتقديم الحقائق الموثقة للمحكمة الجنائية الدولية، حتى يكون هناك رصيد تاريخي لجرائم إسرائيل التي لا ينبغي أن تمر مرور الكرام.
إن ما أريد قوله، هو أن القضية الفلسطينية لا تعالج بالإجراءات، ولكنها تحتاج إلى إرادة قوية وشجاعة باسلة وحكمة، رفيعة وسياسات واقعية، تدرك كيف يتصرف الطرف الآخر في هذه الظروف، وما هي وسائلنا المتعلقة بالإرادة السياسية التي تدعم النضال الحقيقي والكفاح المسلح المعتمدين على قوة المقاومة الفلسطينية التي تمثل قضية العرب الأولى، بل ومأساة العالم المعاصر.
("الخليج") الإماراتية