كانت المقاربة الاقتصادية العربية الكلاسيكية منذ الستينات تقوم على فكرة واحدة هي أنّ الحكومة هي وحدها الحلّ لكل المشاكل مع إقصاء الحلول التي تأتي من القطاع الخاص وقطاع المجتمع المدني. والحال أن هذا النهج الحكومي الإقصائي وصل إلى حدوده في فترات متباينة في مناطق عربية مختلفة، وبالنتيجة، يعيش العالم العربي اليوم مرحلةً جديدةً ووعيًا جديدًا بضرورة إدخال مقاربة عربية جديدة استيعابية غير إقصائية تشرك القطاع الخاص والمجتمع المدني وتقوم على التعاون بين الأطراف الثلاثة، الحكومة وقطاع الأعمال والمجتمع المدني كإطار مستوعب لمواجهة التحديات المختلفة.
قام الاقتصاد العربي منذ الستينات على ما يُشبه قاعدة مفادها أنّ الحكومة هي الحل الوحيد لتوفير السلع والخدمات، مع توفر الموارد الاقتصادية بفضل سوق الطاقة حيث جرى تحديث البنى التحتية ورفع المستوى المعيشي للسكان في مناطق عربية محدّدة، وفي مناطق عربية أخرى لم تتوفر فيها مداخيل الطاقة جرى الاعتماد على المديونية المحلية والدولية والتضخم من أجل الإنفاق الحكومي. وقد وجدت هذه المقاربة مع تقلّبات أسعار الطاقة وارتفاع التضخم وتنامي العجز الحكومي وضعف الموارد البشرية وتنامي الفساد والفقر تحديات حقيقية للعالم العربي اليوم.
إشراك المجتمع المدني في الاقتصاد هو مصدر الحلول المستدامة... والفساد من أكبر التحديات
تقف هذه المقدّمات وراء توجّه الاقتصاد العربي اليوم نحو مقاربة جديدة تشاركية استيعابية للقطاع الخاص تركّز فيها الحكومات على توفير البُنى التحتية والموارد البشرية وتفتح المجال للقطاع الخاص المحلي والدولي، وهناك وعي متزايد بهشاشة الاقتصاد القائم على أسعار متقلّبة وتضخم متنامي محلي ومستورد.
على صعيد آخر، نذهب إلى أنّ إشراك القطاع الخاص المحلي والدولي هو رافع مهم لمواجهة التحديات لكن الأمر يتطلب إدخال إصلاحات في حكامة المؤسسات القائمة التي ينبغي أن تقوم أساسًا على احترام الملكية الخاصة واحترام التعاقدات والنصوص القانونية المسطرة للقطاع حتى يطمئنّ المستثمر الخاص على موارده ويتحفّز على المخاطرة التجارية بها.
كما يُعتبر الفساد من أكبر التحديات أمام القطاع الخاص، وقد كانت كلمة الفساد غير موجودة في القاموس العربي، بل كان استخدامها مُجرّمًا في القانون، وهناك إقرار بوجود الظاهرة بل هناك سياسات وتشريعات للحدّ منها وهذه خطوات كبيرة في اتجاه الطريق الصحيح. كما يُعتبر توفر الرأسمال البشري المعرفي تحديًا كبيرًا كذلك، حيث تعتمد مناطق عربية على استيراد الرأسمال البشري الدولي، ومناطق أخرى على تصدير تلك الموارد المؤهلة. والتحدي الحقيقي هو كيف سيتم بناء القدرات البشرية المحلية المستقرة الذي تفيد الاقتصاد المحلي، وذلك بغض النظر عن تقلّبات سوق الرأسمال البشري المعرفي الدولي.
التشريعات الحالية لا تستوعب الديناميكيات الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع المدني العربي
وأخيرًا، لمواجهة تحدي الفقر والهشاشة الاجتماعية هناك توجّه الى إشراك المجتمع المدني في الاقتصاد، لأنه مصدر لإيجاد الحلول المستدامة لخفض الفقر والهشاشة والأمية. والإطار الذي يتمّ فيه استيعاب المجتمع المدني من أجل الحدّ من الفقر هو الاقتصاد الاجتماعي التضامني الذي يوظف الموارد المختلفة الطوعية البشرية والمادية دون استهداف الربح من خلال انشاء الجمعيات والتعاونيات والتعاضديات والمؤسسات الوقفية والشركات الاجتماعية.
والتحدي الأساسي هنا في منطقتنا العربية هو أن التشريعات الحالية لا تستوعب الديناميكيات الاقتصادية والاجتماعية الفعلية للمجتمع المدني العربي حاليًا، بمعنى آخر، على التشريع العربي أن يستوعب الأشكال الجديدة لتنظيم المجتمع المدني كما هي معروفة اليوم في الغرب مثلًا، وكما كانت معروفة لدينا في التراث العربي والإسلامي من خلال المؤسسات الوقفية منذ القرن 13 م. نحتاج جميعًا إلى جميع الأطراف، الحكومة والقطاع الخاص الربحي والمجتمع المدني، لمواجهة التحديات المتنوعة والمشتركة في إطار عقد جديد يقوم على التعايش المشترك والتعاون دون اقصاء لأيّ مكوّن من مكوّنات المجتمعات العربية.
(خاص "عروبة 22")