تنطلق الأدبيّات الحديثة في دراسة هذا الموضوع من ضرورة فهم العلاقة الوثيقة بين الدولة ومُجتمعها، وإدراك التأثيرات المتبادلة بينهما، وأنّ السيطرة المُطلقة لأحدهما على الآخر تُمثل مُعوّقًا للتقدّم والنهضة. وتراجع النّظريات والآراء التي اتّخذت مواقف حدّية فدافعت عن أولوية الدولة على المُجتمع أو أولوية المُجتمع على الدولة.
واتّضح بجلاءٍ أنّ العلاقة بين الاثنين ليست علاقةً صِفريةً وإنّما تنشأ بينهما شبكة مُتداخلة من العلاقات والتفاعلات، أي أنّ العلاقة الصحيحة هي التداخُل والتأثير المُتبادل بين الدولة والمُجتمع. فمن ناحية، تتأثّر سمات الدولة بطبيعة المجتمع الذي نشأت فيه، ومكوّناته الإثنية والطائفية، وثقافته، وحجم موارده الاقتصادية. ومن ناحيةٍ أخرى، تؤثّر السياسات العامة للدولة على المجتمع من حيث مكوّناته، وثقافته، وموارده، ومُستقبله. فشكل مؤسّسات الدولة والعلاقات فيما بينها، وصنع السياسات والقرارات في الدولة، تعكس واقعها الاجتماعي، حتّى عندما تسعى للتأثير عليه. وبالمثل، لا تحدث التفاعلات المُجتمعيّة في فراغٍ أو تمارسُ تأثيرها بشكلٍ مستقلٍ، وإنّما في سياق الإطار التنظيمي للدولة، فقضايا الحياة العامّة وحركة القوى الاجتماعية وأساليبها لتحقيق أهدافها، تنبعان من شكل التقاء المجتمع بالدولة.
في الدّول الديموقراطية المُتقدّمة تغيّرت صورة الدولة من الوصيّة على المجتمع إلى المتفاعلة والمتعاونة معه
وانطلاقًا من هذه النّظرة، تطوّر اقتراب اقتراب "الدولة - في المجتمع" (State –in –society) ومؤدّاه أنّ الدولة تمثل خصائص مجتمعها وتؤثر فيه، ولا تحيا بمعزلٍ عنه. ولا يمكن تفسير لماذا تبدو بعض الدول قويةً والأخرى ضعيفةً، أو لماذا تتمتّع مؤسّسات بعض الدول بالشرعية والفاعلية بينما تغيب في مؤسّسات دولٍ أُخرى، من دون فهم علاقة التداخل والترابط بين الدولة والمجتمع.
واتّصالًا بذلك، برز مفهوم "التمكين المتبادل" (Mutual empowerment) وجوهره أنّ العلاقة بين الدولة والمجتمع ينبغي أن تكون علاقة تكاملٍ وتواصل، فزيادة قوّة التنظيمات الاجتماعية لا يُضعف الدولة بالضرورة. وبالمنطق نفسه، فإنّ زيادة القدرة المؤسّسية للدولة ليست قيدًا على المجتمع بالضرورة، بل على العكس تمامًا، فإنّ العلاقة الصحيحة بينهما تؤدّي إلى إطلاق قُدرات كلّ منهما، وتُمثّل قيمةً مضافةً ما كان ممكنًا لأحدهما أن يحقّقها بمفرده.
وترتّب على ذلك أنه في الدّول الديموقراطية المُتقدّمة تغيّرت صورة الدولة من الدولة المُسيطرة أو الوصيّة على المجتمع إلى الدولة المتفاعلة والمتعاونة معه لتحقيق أهداف الرفاهيّة الاجتماعية والأمن الوطني.
قوة الدولة لا تنبع من قدراتها الأمنية والقمعية والإكراهية بل من قدراتها التمثيلية والرّمزية والخدميّة
والمطلوب في بلادنا العربية العمل على بناء دولةٍ قويةٍ ومجتمعٍ قويّ يتميّز كلّ منهما في علاقته بالآخر بالجمع بَيْنَ الاستقلال النسبي والتعاون المُشترك. ويُعتبر هذا الوضع متطلّبًا لإنجاز مهامّ التنمية المُستدامة، فالتنمية الاقتصادية تتطلّب دولةً قويةً تُعبّر عن الصالح العام وقادرة على ضبط المصالح الخاصة والأنانية والاتجاهات الانقسامية للقوى الاجتماعية، بينما تتطلّب التنمية السياسية مجتمعًا قويًا يحقّق المشاركة الشعبية، ويصون المجال العام، والفضائل المدنيّة.
يزداد الأمر إلحاحًا في حالة المُجتمعات التعدّدية والتي تحتاج إلى المزيد من البحث عن الصّيغة (أو الصيغ) السياسية والقانونية الملائمة بما يضمن للتكوينات الاجتماعية حقوقها وأمنها، ويحقّق للدولة وحدتها واستقرارها. فالمُهم هو حُسْن إدارة الدولة للتعدّدية الاجتماعية، والعمل على بناء هويةٍ وطنيةٍ مُشتركةٍ تعلو الهويات الفرعية من دون إنكارٍ أو إقصاءٍ لها، وذلك من خلال الاستفادة من السياسات التي ثبت نجاحها في دولٍ أخرى في أفريقيا وآسيا وواجهت التحدّي نفسه، والتي تراوحت بين اللّامركزية والفيدرالية وغيرها من أشكال توزيع أو تقاسم السلطة.
المجتمع القوي وحده هو الذي يفرز دولةً قويّة
توضح التّجارب الناجحة للدول الوطنية في عالمنا المُعاصر أنّ قوة الدولة لا تنبع من قدراتها الأمنية والقمعية والإكراهية، بل من قدراتها التمثيلية والرّمزية والخدميّة، والتي تتأسّس على تنمية رأس المال الاجتماعي وشيوع الثقة السياسية بين المواطنين في مؤسّسات الدولة ونظامها السياسي.
على النّخب الثقافية والفكرية العربية مسؤولية كبيرة في إشاعة المفاهيم الصحيحة عن علاقة الدولة بالمُجتمع، ونقد الأفكار الخاطئة بشأنها، وذلك لأنّ تصحيح هذه العلاقة شرطٌ أساسيّ لبعث الحيوية في مؤسّسات الدولة الوطنيّة، والإسهام في زيادة قدرتها على تحقيق تكاملها الوطني والإقليمي. وفي الوقت نفسه، بلورة مجالٍ عامٍ يتمتّع فيه المواطنون بمساحةٍ حُرّةٍ لمُناقشة الآراء وتداولها.
ويبقى القول إنّ الدولة القوية تستند إلى مجتمعٍ قويّ، والمجتمع القوي وحده هو الذي يفرز دولةً قويّة.
(خاص "عروبة 22")