وجهات نظر

"ناصر 67"... الوثائق المحجوبة!

عندما عبرت مصر قناة السويس بقوّة السلاح في أكتوبر/تشرين الأول (1973) كان يفترض أن تعبر في الوقت نفسِه أي مشاعر سلبيّة لحقتها إثر الهزيمة العسكرية الفادحة في 5 يونيو/حزيران (1967). لم يحدث مثل ذلك التجاوز، بل جرى تكريسها في الوجدان العام.

كان الوجه الآخر لتبديد ثمار النصر في أكتوبر هو تكريس الهزيمة في يونيو. بدا الأمر مقصودًا حتى لا تثق مصر في نفسِها مرةً أخرى حتّى وصلنا إلى حافة الخروج من التاريخ.

ما هو متوافر - حتّى الآن - شهادات لقادةٍ عسكريين يدافعون فيها عن أنفسِهم، أو يتّهمون آخرين بالمسؤولية. حسب المثل الشائع، فإنّ "الهزيمة يتيمة... والنصر له ألف أب".

لا تؤسِّس تلك الشهادات - على الرَّغم من أهمّية بعضها - لروايةٍ مصريةٍ موثّقةٍ ومتماسكةٍ ومصدّقة.

تتوافر آلاف الوثائق الغربية والإسرائيلية عن "يونيو" من دون أن تكون هناك رواية مصرية واحدة لها صفة الرّسمية

"وثائق يونيو" مودعة في خزائنها، والخزائن عليها أقفال ومتاريس. ليس من مصلحة مصر حجب ما تقصّته لجنة برئاسة اللواء حسن البدري، المؤرّخ المعتمد للجيش المصري، بعد يونيو مباشرةً، عن أسباب الهزيمة ومسؤوليتها. ولا أن يحجب عن العِلم العام التقرير الموسّع، الذي كتبه الفريق عبد المنعم رياض بعدما أُسنِدت إليه رئاسة أركان حرب القوات المسلّحة إثر الهزيمة مباشرة.

لم يعد هناك سر واحد خافٍ على أحدٍ في العالم. تتوافر آلاف الوثائق عن "يونيو" وأسرارها، غربية وإسرائيلية، من دون أن تكون هناك رواية مصرية واحدة لها صفة الرّسمية.

الدول تنشر وثائقها السياسية والعسكرية بعد عددٍ معيّنٍ من السنين لتضع الحقيقة أمام مواطنيها ـ أيًّا كانت مرارتها ـ حتى لا تتكرّر أي أخطاء جرت في الماضي.

الأمر نفسه نفتقده في حربَي "الاستنزاف" و"أكتوبر". هناك شهادات ودراسات نُشرت لكنّ الوثائق قضية أخرى.

للوثائق كلمة أخيرة تُجيب عن كل الأسئلة: كيف هُزمنا ولماذا؟ وكيف قاومنا وصمدنا حتّى عبرنا الهزيمة في أكتوبر؟ ثم كيف أُجهضت النتائج السياسية؟

هناك فارقٌ بين مراجعة التاريخ بالوثائق المُثبتة لإدراك حقائقه وتصحيح الذّاكرة العامة، وبين تعميق الشعور بالهزيمة كقدرٍ إغريقيّ لا يمكن الفكاك منه أو نفي أسبابه.

بلغة الوثائق، يتأسّس الاتفاق والاختلاف على قاعدة معلوماتٍ صلبة.

جرت مراجعتان على قدرٍ كبيرٍ من الأهمّية تولّاهما الرئيس جمال عبد الناصر بنفسِه.

الأولى، إعادة تصحيح أوضاع القوات المسلحة بمنع دخولها إلى غير أدوارها الطبيعيّة في حفظ الأمن القومي.

أُعيد بناؤها من تحت الصِّفر تقريبًا وفق مواصفات الجيوش الحديثة، التي تُعلي من شأن الكفاءة والاحتراف وتمنع الانشغال بالسياسة.

أُسندت مسؤوليتها إلى نخبةٍ من العسكريين الأكفّاء في القيادة العامة، كما في جميع الأسلحة.

تصدّر المشهد العسكري المصري أفضل ما في البلد من كفاءاتٍ مُتاحة... وكانت الوطنية المِصرية مستعدةً لتقديم كلّ ما لديها من طاقات عطاء.

كان ضروريًا لإعادة بناء القوات المسلحة تصفية أوضاع قديمة تسبّبت في الهزيمة منها التدخّل في الحياة السياسية

لم تكن مصادفة بعد أيام من الهزيمة أن تفرض قوات محدودة في "رأس العشّ" كلمتها على الإسرائيليين وتوقع بهم خسائر فادحة في لحظة انتشاء عسكري.

بهذه الروح، تمكّنت القوات المصرية من خوض حربَي "الاستنزاف" و"أكتوبر"، وكان الجندي المصري العادي بطلهما بلا منازع.

كان ضروريًا لإعادة بناء القوات المسلحة على أسسٍ احترافيةٍ، تصفية أوضاع قديمة تسبّبت في الهزيمة منها التدخّل في الحياة السياسية، ومنها ما هو منسوب للمخابرات العامة في عهد صلاح نصر، من انحرافاتٍ جرى التحقيق فيها.

بعض التحقيقات سُرّبت وأغلبها ما زالت مودعةً في خزائن الدولة.

لا يصحّ أن تظلّ نصوص التحقيقات في مكامنِها إلى الأبد بعيدًا عن عِلم الرأي العام ومن حقّه أن يعرف ما حدث بالضبط.

والثانية، إعادة النظر في طبيعة النظام نفسه... وقد تردّدت في المراجعات، التي احتوتها محاضر رسمية للجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي شارك فيها عبد الناصر، عبارات "المجتمع المفتوح" و"دولة المؤسسات" و"التعدّدية الحزبية".

المحاضِر كلّها منشورة الآن. يمكن بالاطلاع عليها تلمّس جدّيته البالغة في تصحيح أي أوضاع مختلّة في بنية نظامه.

شاع وقتها شعار "يدٌ تبني... ويدٌ تحمل السلاح". البناء والحرب معًا، القتال والتصحيح في الوقت نفسه.

مثّلت الهزيمة تراجعًا فادحًا في المشروع القومي، لكنّها لم تكن نهاية المطاف.

كانت السنوات التي أعقبت الهزيمة أفضل سنوات العسكرية المصرية، وأفضل سنوات عبد الناصر، بالنّظر إلى حجم العطاء الذي بُذل.

لم يكن وصف "النّكسة" تحلّلًا من حجم الهزيمة العسكرية ومسؤوليتها بقدر ما كانت تعبيرًا عن إرادة مقاومة لتصحيح الأسباب، التي أدّت إليها.

بالحساب العسكري ثبت صحّة وصف "النّكسة".

بالحساب السياسي، تحوّل ما هو مؤقت من انكسارٍ عسكريّ بالإدارة السياسية لحرب أكتوبر، إلى إقرارٍ متأخرٍ بالهزيمة.

أهدرت التضحيات الهائلة التي بُذلت في ميادين القتال، ونشأت طبقة جديدة وُصفت في البداية بـ"القطط السمان" لتسانِد نوعًا من السلام مع إسرائيل.

شعر جيلٌ كاملٌ وهب حياته لقضية تحرير بلاده بقوّة السلاح، بالخديعة الكاملة، فقد حارب من أجل حلمٍ ليستيقظ على كابوس.

مراجعة أسباب الهزيمة العسكرية من ضرورات استيعاب دروس التاريخ حتى لا تتكرّر الأخطاء نفسها

كانت تلك هي الهزيمة الحقيقية، التي أرادوا إخفاءها وراء تكريس "عقدة يونيو" في الوجدان العام جيلًا بعد آخر. مراجعة أسباب الهزيمة العسكرية في حرب 5 يونيو (1967) من ضرورات استيعاب دروس التاريخ حتى لا تتكرّر الأخطاء نفسها مستقبلًا. هذه مسألة تختلف جذريًا عن تكريس ثقافة الهزيمة في الوجدان العام.

لم تكن مصادفةً أنّ الذين يهاجمون عبد الناصر بالتفلّت الأخلاقي واللفظي، هم أنفسهم الذين يتبنّون السردية الإسرائيلية وينحازون إليها في حرب الإبادة على غزّة. إنهم يكرهون عبد الناصر والمقاومة الفلسطينية معًا.

هم أنفسهم الذين يتعمّدون إهانة صلاح الدين الأيوبي بدوره في تحرير القدس، ونزع القداسة عن المسجد الأقصى تسويغًا مُواربًا لبناء الهيكل المزعوم محلّه.

هذا وحده كافٍ لإزاحة كل الأقنعة عن كلّ الوجوه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن