فلسطين... القضية والبوصلة

عن أيّ "تطبيع أكاديمي" يتحدّثون؟!

يرى بعض الأكاديميين العرب أنّ التطبيع الأكاديمي مع الجامعات والجامعيين الإسرائيليين يُمثّل خطوةً نحو تعزيز السلام والوئام بين الشعوب. كما يمكن أن يُساهم التعاون والتبادل الثقافي بين الطرفَيْن في تغيير وجهات النظر والتفاهم بينهما، ويساعد على كسْر الصور النّمطية عند الطرفَيْن وتغيير وجهات النظر، وربّما يساهم التطبيع الأكاديمي في تقليل الخلافات والصّراعات بين الشعوب. فإلى أي مدى يمكن أن يتحقّق هذا "الطموح" في ظلّ نظامٍ عنصريّ إحلاليّ قامت الجامعات حتّى قبل تأسيس الدولة، بخدمة الأهداف الإيديولوجية الاستعمارية والاستيطانية الإحلاليّة للحركة؟.

عن أيّ

لقد ساهمت المؤسّسات الجامعية بمختلف فروعها في المشروع الصهيوني وبناء الدولة وبلورة الهوية الجديدة، كما ساهمت في توفير الزّائد البشري ومختلف الحاجيّات لمختلف مفاصل الحياة المادية والعِلمية، وتمكّنت من كسب تعاطف وثقة أغلب المؤسّسات الجامعية العالمية، ومنها بالأخص الأميركية والأوروبية.

ازداد تغلغل المصالح العسكرية والأمنية في الجامعات الإسرائيلية

لم تكن الجامعات الإسرائيلية منذ نشأتها، في الواقع، مؤسّسات أكاديمية مستقلّة وعِلميّة كما تتفاخر أمام العالم، وعلى عكس الصورة التي حاولت المؤسّسة الجامعية تسويقها كمؤسّسات معرفية مستقلة حرّة ديموقراطية وحامية للحريات الأكاديمية وفضاءٍ حيويّ للمعارضة السّياسيّة تجاه الثقافة العنصرية السّائدة، بل كانت وما زالت مؤسّسات تعمل لتلبية متطلّبات المؤسّسات العسكرية والأمنية.

تُعدّ العلاقة بين الأكاديمية الإسرائيلية والمؤسّسة العسكرية والأمنية وثيقةً ومتشابكةً، بل تُشكّل أحد أركان القوّة الناعمة والصّلبة لإسرائيل، كما تطوّرت الصلة بينها وبين أجهزة الأمن والجيش في الأعوام الأخيرة وتعمّقت. إذ ازداد تغلغل المصالِح العسكرية والأمنية في حرَم الجامعات، فمن جهةٍ ازداد عدد العسكريين، السابقين، العاملين في المؤسّسات الجامعيّة بتعيين الكثير من العسكريين لتحمّل مسؤولياتٍ إدارية وعلمية، وبالنتيجة الأمر الذي أصبح لتلك الشخصيات النّفوذ المباشر في تحديد العديد من مسائل البحث الأكاديمي والمساهم في تحديد سياسات التدريس وتوجّهاته، ممّا أفقد أغلب المؤسّسات الجامعية استقلاليتها وحيادها السياسي.

الإدارة الإسرائيلية اعتبرت التعليم الفلسطيني تهديدًا لمشروعها ولوجودها لذلك لم تتوانَ عن استهدافه

ومن جهةٍ ثانيةٍ، تضاعفت مراكز البحث ومعاهد التخطيط الاستراتيجي في أقسام وكليّات الجامعات ومراكز التدريس العسكرية والاستراتيجية والأمنية التي أخذت تلعب دورًا محوريًا في تطوير تقنياتٍ تُستخدم في الأمن والدفاع، بما في ذلك الذّكاء الاصطناعي وتحليل البيانات كتقنيات الطائرات من دون طيار وأنظمة المراقبة السيبرانية مثل مشروع "بيغاسوس" التابع لشركة "NSO" المرتبطة بأبحاثٍ أكاديميةٍ. كما توجد برامج أكاديمية يتمّ تطويرها بالتعاون مع "الوحدة 8200" التابعة للاستخبارات العسكرية التي لعبت دورًا أساسيًّا في العدوان الأخير على لبنان.

ومقابل كل ذلك، اعتبرت الإدارة الإسرائيلية التعليم الفلسطيني تهديدًا لمشروعها ولوجودها، لذلك لم تتوانَ عن استهدافه منذ تأسيسها، وقيّدت قدرة الفلسطينيين على الوصول إلى التعليم، وقيّدت التحاقهم بالتعليم عبر فرض شروطٍ ذات طبيعةٍ عنصريةٍ قاهرة.

يساهم الأكاديميون في أراضي 48 (الخط الأخضر) في تحشيد المجتمع الإسرائيليّ وتجييشه ضدّ الأقلية العربية والترويج للتطهير العِرقي وتوفير الغطاء "الأخلاقي" لعمليات القتل خارج نطاق القضاء، والتمييز المنهجي العنصري ضدّ الطلاب العرب، وغيرها من الانتهاكات الصريحة والمُبطّنة لحقوق الإنسان والقانون الدولي.

الهدف تجريد الفلسطينيين من الفكر والثقافة والتعليم والقضاء على كلّ ما له رمزية في المجتمع الفلسطيني

وتُواصل إدارات الجامعات هناك تقليص الوجود الفلسطيني، بالتعاون المُستمر مع الحكومة الإسرائيلية عبر قمع طلابها الفلسطينيين، وبخاصّة النشطاء منهم وتمنع عنهم الدراسات الأكاديمية المُمَوّلة، وهو أمرٌ تضاعَف بعد "طوفان الأقصى". كما تتعرّض الجامعات الفلسطينية في الضفّة الغربية المحتلّة، بما فيها القدس الشرقية، لقيودٍ بيروقراطيةٍ تعزلها وتُعرقلها، بالإضافة الى عمليات الإغلاق والمداهمات العسكرية المتكرّرة، واختطاف واحتجاز وتعذيب أعضاء هيئة التدريس والطلاب.

أمّا في غزّة، وبعد خضوع القطاع لحصارٍ شامل، توفّرت الفرصة بعد "طوفان الأقصى" للآلة العسكرية الإسرائيلية لتحقيق أحد أهدافها الاستراتيجية غير المُعلنة، في التخلّص من كلّ ما له علاقة بالعلم والمعرفة في إطار عملية انتقامٍ مُمنهجةٍ لتدمير كلّ مقوّمات الحياة التعليمية: جامعات ومدارس ومستشفيات وبلديات ومؤسّسات حكومية وخيرية ودولية ومنشآت اقتصادية وصناعية، حيث تمّ تدمير كلّ الجامعات في القطاع كليًّا أو جزئيًا، موازاةً مع تدمير المتحف الوطني فيها، الذي كان يضم أكثر من 3 آلاف قطعة أثرية نادرة، ولم تكتفِ بذلك بل قامت بسلب هذه الآثار، بهدف "القضاء" على التراث المادي واللّامادي. كما قامت بقتل واغتيال العديد من رؤساء الجامعات إلى جانب أكثر من 95 من عمداء وأساتذة الجامعات، من بينهم 17 شخصيةً تحمل درجة البروفيسور، و59 شخصيةً تحمل درجة الدكتوراه، و18 شخصيةً تحمل درجة الماجستير. كما أدّى القصف الإسرائيلي إلى حرمان 88 ألف طالبةٍ وطالبٍ من مواصلة تلقّي تعليمهم الجامعي، وتَعذّر على 555 طالبةً وطالبًا الالتحاق بالمنح الدراسية في الخارج. لقد كان الهدف من هذا الاستهداف، تجريد الفلسطينيين من أهمّ مقوّمات الحياة، الوعي والفكر والثقافة والتعليم، والقضاء على كلّ ما له رمزية في المجتمع الفلسطيني.

من الصعب فصل المعرفة العلمية عن الأجندة السياسية والأمنية في السياق الإسرائيلي

ثم إنّ الأكاديمية الإسرائيلية لم تكن فضاءً معرفيًّا مستقلًا، بل هي في الكثير من الأحيان شريك مباشر أو غير مباشر للمؤسّسة العسكرية والأمنية، سواء من خلال البحوث، أو التكوين الأكاديمي، أو المشاركة في وضع الاستراتيجيات الأمنية.

واضح أنّ هذا التشابك يجعل من الصعب فصل المعرفة العلمية عن الأجندة السياسية والأمنية في السياق الإسرائيلي. وقد كشف "طوفان الأقصى" حقيقة هذا النظام وانخراط النّخب الجامعية في الإبادة، أو قُلْ المحرقة، التي استهدفت قطاع غزّة. لذلك، لا يبدو ما يدعو إليه بعض الأكاديميين العرب للتطبيع مع الأكاديمية الإسرائيلية إلّا خدمةً للنظام العنصري الاستيطاني، ومساهمةً في التغطية على جرائمه المختلفة ضدّ الشعب الفلسطيني ونخبه الجامعية، وكسر عزلته السياسية المتنامية في المؤسّسات الجامعية في العالم، بخاصة بعد "طوفان الأقصى".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن