بصمات

الهدية في سياق العلاقات الأميركية - العربية: الدلالة والسياق

تعرف العلاقات الأميركية بالشرق الأوسط طابعًا خاصًّا تزدوج من خلاله العلاقات الاقتصادية والسياسية وكذا التبادلات الرّمزية، خصوصًا المرتبطة بالعطايا أو الهدايا، وهو ما يحضر بشكلٍ مكثّفٍ خلال ولاية ترامب السابقة والحالية، مما يُحمّل مصطلح الهدية بشحنةٍ دلاليةٍ مكثّفةٍ وملغّمةٍ على حدٍّ سواء، هذا الغموض الدلالي يرتبط بالدرجة الأولى بالسياق العام للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط وما يُمثله الغرب في الذّهن العربي.

الهدية في سياق العلاقات الأميركية - العربية: الدلالة والسياق

إنّ مصطلح "الهدية" أو "العطية" لا يرتبط هنا بإطار العلاقات الفردية أو بين أفرادٍ محدّدين بقدر ما يهمّ الإطار العام الذي يتحكّم في طبيعة العلاقات بين الدول، أو بشكلٍ أكثر تدقيقًا ما بين الدول المُسيطِرة والدول الأقلّ تأثيرًا في الساحة الدولية، حيث تمّ تكريس طابع تقديم الولاء عبر العطايا المباشِرة للنظام الاقتصادي والسياسي المُسيطِر على العالم.

تقوم هذه التبادلات الخيرية على واهبٍ سخيّ تجاه موهوبٍ له قوي ومُسيطِر يحتكم لعقلية المال والقوّة، ممّا يرسم علاقةً غير متكافئة، بل علاقة متفاوتة، هذا التفاوت الذي يُترجم اختلافًا في المكانة بينهما يتمّ ردمه من خلال العطايا، بغية تحقيق أهدافٍ مختلفةٍ ترتبط بالواهِب والموهوب له، على حدٍّ سواء؛ ممّا يجعلنا أمام خليطٍ هجينٍ من العلاقات المُتأرجحة وغير المتوازنة، فتُمثّل الهدايا أو العطايا سبيلًا لكسر الهوّة ما بين المُسيطِر والمُسيطَر عليه، ممّا يُنتج بالضرورة توافقًا ظرفيًا نفعيًا.

الواهِب سيظلّ أسير الموهوب له ولأطماعه التي لن تتوقّف

إنّ عملية الوهب هنا تُبنى وفق غايةٍ أساسيةٍ هي تقريب واستمالة الموهوب له سياسيًّا عبر ربطه بالعطية الاقتصادية، ومنه تصير مسلكًا لتسريع هذه العلاقة غير المتكافئة لتحويلها إلى علاقةٍ فوق سياسيةٍ واقتصاديةٍ وأكثر إنسانيةً من طرف الواهب.

غير أنّ عملية الوهب هنا تُترجم عجزًا أيضًا في الوعي السياسي العربي الذي سيظلّ أسيرَ هذه العلاقة، وعلى عكس عملية الوهب الفردية التي يصير فيها الموهوب له أسير الواهِب، فإنّ الواهِب هنا هو من سيظلّ أسير الموهوب له ولأطماعه التي لن تتوقّف، بل سوف تتزايد بشكلٍ مُتواترٍ، ليس باعتبارها وهبًا أو عطيةً، بل بماهيّة حق مشروع ومقابل محتم لموافقة الموهوب له على إقامة أرضية توافقٍ مع الواهِب تحفظ للموهوب له صدارة وسطوة المكانة السياسية. هي بالنهاية علاقةٌ ذات جوهر استغلالي ونفعي، وقد تكون تصريحات ترامب الصريحة مناسبةً لتأكيد ذلك.

لهذا، فإنّ عملية الوهب أو تقديم هدايا بشكلٍ سخيّ وكبيرٍ، حتى وإنْ لبسَت صورًا اقتصاديةً وتجاريةً وخدماتٍ عسكريةً وتبادلاتٍ قيميةً، فإنّها عملية قسرية وإلزامية يفرضها سياق ومنطق القوّة الذي شكّلته السياسة الأميركية في ذهنية البنية السياسية الفوقية للشرق الأوسط (الأنظمة السياسية)، حتى وإن ارتدت قالبًا إراديًا ظاهريّا. هذا التوافق الضمني على جبريّتها يعمل بالمقابل على استدامة عقلية التبعيّة وشحذ الرّضا، بل ويُعزّز منطق القوّة الذي تترجمه الولايات الأميركية والتي تحاول أن تُبقيه بشتّى الوسائل.

لهذا يمكننا استخلاص ما يلي:

- العلاقة التي تُبنى على أرضيةٍ نفعيةٍ هي علاقةٌ ظرفيةٌ لا تُمثّل في الواقع حلًا لاستدامة وضعٍ سياسيّ واقتصاديّ بقدر ما تفتح الباب لأطماعٍ مستقبليةٍ تُبنى على أساس أنّ العطية أو الهدايا هي بمثابة حق مكتسب يجب أن يتعاظم ويتوسّع أكثر فأكثر، فننتقل من الإطار الإرادي إلى القسْري الجبْري، ومن مبادرةٍ تحتكم إلى الظّرفية المؤقتة إلى سلوكٍ دائمٍ ومُستديمٍ باستدامة القوّة المُسيطِرة وطبيعة توجّهاتها.

- القول بأولوية استثمار العطايا داخليًا وإقليميًا يحمل وجاهةً ظاهريةً، لكنّه عصيّ على التحقّق خارج عملية الإرضاء الخارجي أو في غيابه، لأنّ بين الدولة الوطنية في السياق العربي والدول الغربية المُسيطِرة هوّة زمنية تتسارع بشكلٍ لافت، فيصعب اللحاق بالمُسيطِر لإيجاد أرضيةٍ توافقية. كما يصعب المجازفة بفقدان الرّصيد التنموي التراكمي المُحقّق لحدّ الآن، بغضّ النّظر عن قيمته وضغطه ووزنه عالميًا أو إقليميًا، لهذا قد لا تعكس العطايا في ظلّ هذا السياق دلالةً سلبيةً بشكلٍ مُجمل.

- العلاقة القائمة على واهبٍ وموهوبٍ له لا ترسم، في الحقيقة، طبيعةً تبادليةً مُحدّدة المعالم، أو قد تُنذر بوجود توافقاتٍ قادرةٍ على ردم الهوّة بين الواهِب والموهوب له، بقدر ما تنسج غلافًا وهميًّا لعلاقةٍ إنسانيةٍ غير قائمةٍ فعليًا، فنكون أمام توازنٍ دوليّ ظرفيّ مؤدّى عنه من دون قدرة مشاركة الواهِب على تحديد معالمه أو حيثيّاته، هذه العلاقة التي تظلّ رهينةَ كرم وسخاء الواهِب، وحجم جشع وغايات الموهوب له من هكذا توافقات.

العلاقة المؤسَّسة على الهدايا في السياق السياسي غالبًا ما تُترجم قوة وهمية لدى الواهِب

ــ التحالفات السياسية المبنية على قَوام الخوف وشراء شرّ القوي، هي بالمجمل تحالفاتٌ عرجاءٌ لا تسمح ببناء قوامةٍ تُؤَصِّل لدولةٍ قادرةٍ ومؤهَّلةٍ لتحقيق استقلاليةٍ ذاتيةٍ تتحرّك وِفق تحالفاتٍ مبنيةٍ على توازن القوى والإرادات. لهذا قد نسلّم بظرفيّتها، لكن في المقابل استدامتُها تُرادِف، بمعنى ما، الصورة الكولونيالية المغلّفة بالعطاء الاقتصادي الإرادي ذي الجوهر الإلزامي.

ــ العلاقة المؤسَّسة على الوهبِ أو الهدايا في السياق السياسي غالبًا ما تُترجِم قوةً وهميةً لدى الواهِب، مفادُها تغطية ضعفٍ بنيويّ داخليّ تعكسه الدولة الوطنية، لهذا تحاول في مقابل البنية السياسية الفوقية للدولة الوطنية في السياق العربي، ممارسة حجابٍ وهميّ يقتات على قوّة الموهوب له.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن