إنطلاقاً من ذلك، هرعت القيادتان السياسية والعسكرية إلى وضع أهداف "عالية السقف" للحرب على قطاع غزّة، وبعضها أشبه بـ"المهمات المستحيلة"، أبرزها اجتثاث حركة "حماس" من القطاع، ضمن إطار سيناريوهات رسمتها تل أبيب خصيصًا من أجل إستعادة ثقة المستوطنين بـ"دولتهم"، وهو ما لا يمكن أن يحصل من دون خلق تبدّلات ميدانية كبيرة على مستوى مستقبل القطاع وغلافه.
بناءً عليه، برزت مجموعة من المخطاطات الإسرائيلية القديمة - الجديدة إلى الواجهة، وفي مقدّمها مخطط تهجير سكان قطاع غزّة نحو سيناء، وخلق أمر واقع على الأرض بقوة النار وسياسة التدمير والتهجير والإبادة الجماعية التي تنتهجها آلة الاحتلال العسكرية في حربها الدموية على القطاع.
وفي هذا السياق، تشير مصادر فلسطينية، عبر "عروبة 22"، إلى أن "هذه الغاية هي الهدف الرئيسي من العمليات العسكرية منذ بداية العدوان على غزّة، حيث هناك رغبة صريحة وواضحة في تدمير كل مقوّمات الحياة في القطاع، من خلال إستهداف البنى التحتية والمستشفيات والمدارس والمساكن، بشكل يجعل من المستحيل على الفلسطينيين البقاء فيه بعد انتهاء الحرب"، لافتةً الانتباه في هذا المجال إلى أنّ "هذا المخطط كان يركّز في البداية على شمال غزّة، أما اليوم فأصبح يمتدّ ليشمل جنوبه في مؤشر لا يترك مجالًا للشك بنوايا إسرائيل وتصميمها على دفع الغزاويين إلى النزوح قسرًا باتجاه الحدود مع مصر".
وترى المصادر أنّ تصعيد العمليات العسكرية في جنوب القطاع، في ظل المعلومات عن أن الولايات المتحدة تطالب بتحديد مهلة زمنية لإنهاء العدوان، يرمي إلى "خلق واقع عسكري محدّد على الأرض قبل الذهاب إلى مفاوضات وقف إطلاق النار، سيّما وأنّ كل التصريحات والمؤشرات تؤكد عزم إسرائيل على توفير "منطقة عازلة" في غزّة تقدّم تطمينات أمنية لمستوطني غلاف القطاع تشجّعهم على العودة إلى مستوطناتهم بعد نهاية الحرب".
وإذ لم تظهر الآلية التي من الممكن التوصل إليها في هذا المجال حتى الآن، إلا أنّ المصادر نفسها لا تستبعد أن تكون "على نسق القرار 1701"، الذي أنهى العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز من العام 2006، ونصّ على "إنشاء منطقة خالیة من الأشخاص المسلّحين والعتاد والأسلحة بین الخط الأزرق ونهـر اللیطاني" عند المنطقة الحدودية الجنوبية للبنان مع إسرائيل، بمعنى أن تضغط تل أبيب ومن خلفها الولايات المتحدة لاستصدار قرار عن مجلس الأمن الدولي ينصّ على أن يكون شمال قطاع غزّة خاليًا من مقاتلي "حماس"، مع وضع مسألة الاتفاق حول الجهة التي ستتولى إدارة القطاع، أو على الأقل شماله في المرحلة المقبلة، على طاولة النقاش بين القوى الدولية والإقليمية، خصوصًا في ظل بدء التداول بأكثر من سيناريو على هذا الصعيد في الأسابيع الماضية.
وما ينطبق على الواقع في قطاع غزّة يبدو أن القيادة الإسرائيلية تضغط لجعله ينطبق أيضًا على الواقع في جنوب لبنان، نظرًا إلى كون تل أبيب تواجه معضلة مشابهة بمشكلة مستوطات غلاف القطاع، تكمن في رفض سكان المستوطنات الشمالية العودة إلى مستوطناتهم قبل التأكد من إبعاد "حزب الله" عن الحدود، وهو ما كان قد أكد عليه رئيس بلدية كريات شمونة أفيحاي شترن، الذي دعا الجيش الإسرائيلي إلى القيام بعملية عسكرية "قاسية" و"رادعة"، في الوقت الذي توعد فيه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت بإبعاد الحزب إلى ما وراء نهر الليطاني، "سواءً بترتيب سياسي دولي أو بتحرّك عسكري".
هذا الواقع، كان قد قاد إلى مجموعة من التحوّلات على مستوى الجبهة اللبنانية، في الأيام الماضية، إن من خلال اتساع رقعة الاستهدافات الإسرائيلية للمناطق الحدودية الجنوبية، أو عبر مجموعة من المعطيات التي تزامنت مع مؤشرات توحي بوجود غطاء غربي لما تطالب به إسرائيل على هذا الصعيد، تحت طائل الرسائل التي حملها الموفدون الأجانب إلى المسؤولين اللبنانين لتحذيرهم من مخاطر توسّع رقعة الإشتباكات، وعواقب العمليات العسكرية التي يقوم بها "حزب الله" والردود الإسرائيلية عليها.
وفي هذا الإطار، تتوقف مصادر لبنانية مطلعة، عبر "عروبة 22"، عند ما كان قد أدلى به رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، قبل أيام، عندما تحدث عن أنّ الأشهر المقبلة ستشهد مفاوضات، عبر الأمم المتحدة، من أجل المزيد من الاستقرار على الحدود الجنوبية، بدءًا باستكمال تنفيذ القرار 1701، ووصولًا إلى إبرام إتفاق بشأن النقاط الخلافية الحدودية، بحيث ترى المصادر أنّ "ما بين سطور" موقف ميقاتي يعكس قناعةً بعدم إمكانية إستمرار الوضع في جنوب لبنان بعد إنتهاء الحرب، على شاكلة ما كان عليه قبلها".
وتؤكد المصادر عينها على أنّ القرار 1701 لم يُطبّق بحذافيره، منذ صدوره، خصوصًا من الجانب الإسرائيلي الذي يقوم بخروقات يومية لمندرجاته، حيث تم الإكتفاء بالشق المتعلق بوقف العمليات العسكرية منه، منوّهةً في الوقت عينه بأنّ ما يُطرح اليوم هو ما كان قد دعا إليه هذا القرار لناحية إيجاد منطقة بين الخط الأزرق ونهر الليطاني، تكون خالية من المسلّحين والمعدات الحربية، ما عدا تلك التابعة للقوات المسلحة اللبنانية وقوات الطوارئ الدولية "يونيفيل".
غير أنّ الصعوبة في تطبيق القرار 1701 بحرفيّته، بحسب المصادر اللبنانية، تكمن بأنه يحتاج إلى "ترتيبات من الجانبين"، أي إسرائيل و"حزب الله"، وهو ما يوجب الخوض في "مشاورات وإتصالات طويلة ومعقّدة، تتضمّن كذلك البحث في موضوع مزارع شبعا وتلال كفرشوبا"... لتخلص إلى الإعراب عن قناعتها بأنّ "المناطق العازلة" ستكون عنوان المرحلة المقبلة، سواءً في شمال غزّة حيث يسعى الاحتلال إلى إقصاء مقاتلي حركة "حماس" عن أي تواجد على حدود القطاع مع غلافه، أو في جنوب لبنان حيث تهدف إسرائيل إلى إبعاد قوة "الرضوان" التابعة لـ"حزب الله" عن المناطق الحدودية، مقابل إنهاء معضلة بعض النقاط البرية المتنازع عليها على الحدود كمقدمة نحو إعادة تثبيت وقف إطلاق النار الذي كان قائمًا قبل 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
(خاص "عروبة 22")