صحافة

اليوم السابق لتوقف القتال في غزّة

أيمن زين الدين

المشاركة
اليوم السابق لتوقف القتال في غزّة

بينما ينشغل الناس بالكارثة الإنسانية المروعة الناتجة عن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وسكانه، بدأ الحديث عما سيجرى في اليوم التالي لتوقف القتال، وما يتطلبه التعامل مع الواقع الجديد من سياسات. تركز هذا الحديث على قضيتين أساسيتين هما الصيغة التي ستحكم إدارة قطاع غزة مستقبلا، وكيفية العودة السريعة إلى عملية السلام.

لا توجد دولة في العالم أكثر اهتماما وتأثرا بما يجري في غزة من مصر، في ضوء أهميتها القصوى لأمنها القومي ومصالحها العليا، وارتباطها التاريخي الوثيق بقطاع غزة، خاصة مع اتضاح رغبة إسرائيل الجامحة في توظيف الحرب في تفريغ قطاع غزة من سكانه، وتهجيرهم قسريا إلى مصر كجزء من مخطط ابتلاع الأراضي المحتلة وتصفية القضية الفلسطينية كقضية شعب ووطن، وتحويلها إلى قضية مجموعة من البشر بحاجة إلى أماكن لاستيعابهم. لذا فهناك ضرورة ملحة لأن تأخذ مصر زمام المبادرة بالتحرك في هذا الشأن.

والحقيقة أن ترك العمل إلى اليوم التالي لتوقف القتال سيكون متأخرا للغاية، لأن الأطراف الأخرى، ولا سيما إسرائيل والولايات المتحدة، تعمل من الآن على تشكيل جدول أعمال المرحلة اللاحقة والمبادئ التي ستحكمها، على نحو يناقض المصالح الفلسطينية والمصرية، وهو ما يستدعى المسارعة من الآن بالعمل على صياغة رؤية خاصة بنا تساعد في توجيه الأحداث الجارية الآن في اتجاه أقرب لمصالحنا وأقل انحيازا لإسرائيل، يبدأ بوقف سريع لإطلاق النار، ويسمح بتناول أكثر توازنا لمرحلة ما بعد توقف القتال فيما يخص مستقبل قطاع غزة والقضية الفلسطينية عموما.

قبل التطرق لتصورات محددة حول ما يقتضيه ذلك من تحركات مصرية، أجد من المفيد الإشارة إلى ثلاثة محددات ستكون حاكمة للموقف المصري. أولها هو أن ما يحدث منذ يوم 7 أكتوبر الماضي هو بمنزلة الإعلان الرسمي للوصول إلى نهاية الطريق المسدود الذي سارت عليه عملية السلام في العقود الأخيرة، وإزالة أي وهم بأنه كان يمكن أن يؤدي إلى تسوية عادلة للقضية الفلسطينية.

ثاني هذه المحددات هو أن ما شهدته العقود الأخيرة من تحولات في المعسكر الفلسطيني، وداخل إسرائيل، وعلى المستوى الدولي، ابتعدت الأمور كثيرا عن الواقع الذي أتاح بدء عملية السلام في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وأصبح الأمر يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين لإنضاج الظروف مجددا للعودة إلى عمل سياسي لديه فرصة نجاح، وبالتالي فإن الدعوة إلى العودة السريعة إلى «عملية السلام» يعني التسليم بالعودة إلى ما لا يمكن وصفه سوى بأنه «تمثيلية» دبلوماسية غرضها استيفاء الشكل وتهدئة المشاعر، وليس الوصول إلى تسوية، مع إتاحة الفرصة لإسرائيل لاستكمال مخططاتها.

ثالث هذه المحددات هو أنه لم يعد يجوز انتظار مبادرات القوى الخارجية، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية، بعد أن كشفت الأحداث الأخيرة أنها لو تركت لهواها دون ضغوط، ودون طرح رؤى مغايرة، فإنها تميل بصورة حاسمة لكن ماكرة إلى وجهة النظر الإسرائيلية، وبالتالي تكون تحركاتها مناقضة لمصالح مصر وأمنها القومي، وإنما ينبغي أن تكون مصر هي المبادرة بالتحرك وتقديم رؤيتها بحكم موقعها ومكانتها ومصالحها كما أسلفنا.

لعل أول محور لهذا التحرك المصري هو بناء تحالف دولي لدعم الحقوق الفلسطينية، والذي يمكن أن يضم نسبة كبيرة من دول الجنوب العالمي، العربية والأفريقية والآسيوية واللاتينية، وعدد من الدول الأوروبية التي اختارت الوقوف إلى جانب هذه القضية العادلة، مع العمل على ضم المزيد. وسيكون على هذا التحالف العمل على صياغة المبادئ التي تحكم التسوية النهائية، والضغط على باقي المجتمع الدولي لقبولها، وتضمينها في قرارات المنظمات الدولية، واتخاذ خطوات نحو تحميل إسرائيل مسؤولية أفعالها سياسيا وقانونيا، ومحاصرتها دبلوماسيا، ووضعها في موقف الدفاع في موضوعات التسلح وانتهاكات حقوق الإنسان.

المحور الثاني هو إعادة بناء الوضع الفلسطيني الداخلي. فمثلما احتضنت مصر إعلان منظمة التحرير الفلسطينية في مرحلة المواجهة العربية الإسرائيلية في الستينيات، ثم تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية في مرحلة ما بعد اتفاقيات أوسلو في التسعينيات، فإن الواقع الجديد، المتمثل في الانهيار شبه التام للنظام في قطاع غزة، وانتهاء مشروع أوسلو نهائيا، والحاجة إلى مسار جديد لحل القضية، ووجود قوى سياسية وشعبية فلسطينية مهمة خارج إطار المنظمة والسلطة، يتطلب أن تحتضن مصر من الآن جهدا منظما وجادا لابتداع صيغة جديدة للحركة الوطنية الفلسطينية تناسب المرحلة الجديدة، وتجمع مختلف روافد الشعب الفلسطيني ومجتمعه المدني في الداخل والخارج، وتكسب ثقة المجتمع الفلسطيني، ولا تكون مكبلة بالتزامات أوسلو التي قوضت السلطة الفلسطينية. مثل هذه الصيغة الجديدة للحركة الوطنية الفلسطينية هي التي تستطيع تسلم المسؤولية عن قطاع غزة، وتحديد متطلبات وشروط تحمل هذه المسؤولية.

المحور الثالث هو الاستعداد لعملية إعادة بناء سريعة لقطاع غزة عمرانيا واقتصاديا واجتماعيا بعد ما لحق به من دمار مروع، بمساندة مالية عربية ودولية، ليعود قابلا للمعيشة في أسرع وقت ممكن، إذ إن حالة القطاع بعد انتهاء المعارك ستكون طاردة للسكان، وهو أمر لا يحدث بالصدفة، وإنما هو أحد أهداف العملية العسكرية الإسرائيلية في القطاع. يستدعى ذلك تبني مصر موقفا منفتحا تجاه قطاع غزة، وتسهيل اتصاله بالعالم الخارجى للأفراد والبضائع، وعدم التجاوب مع رغبة إسرائيل في التضييق عليه، باعتبار ذلك واجبا أخلاقيا وإنسانيا على مصر، كما أنه يساعد على إزالة أي شوائب في علاقاتها بأبناء القطاع، ومنع تحوله إلى مصدر تهديد لأمنها.

المحور الرابع هو التعامل مع الواقع السياسي الداخلي في إسرائيل، الذى انحرف بصورة فادحة نحو اليمين المتطرف الرافض لفكرة التسوية السياسية، مما جعله مصدر تهديد كبير للشعب الفلسطيني، ولمصالح مصر وأمنها القومي، ولاستقرار المنطقة عموما. وصحيح أن هناك فوائد لمد الجسور ــ من خلال القنوات الملائمة ــ مع ما تبقى من معسكر السلام، والمعارضين للتوجه اليميني المتطرف، إلا أن ضعف هذا المعسكر يجعل الأولوية الأولى الأجدر بالعمل هي مواجهة القوى اليمينية بصلابة، للرد على ما يشيعه اليمين الإسرائيلي بأن الدول العربية لا تحترم إلا القوة، وأن تشدد إسرائيل هو الذي يدفعها إلى المرونة ويجعلها تحترم إسرائيل وتتجاوب مع رغباتها.

المحور الخامس هو دعم المد الشعبي العالمي المتعاطف مع القضية الفلسطينية، والمعارض لسياسات إسرائيل، والداعي لمقاطعتها ومعاقبتها، خاصة في الدول الغربية، وبالأخص الحركات اليهودية، وهو ما يتطلب الاستماع لهذا، وإبراز دورها وتسهيل مهمتها، مع عدم المبالغة في اقتراب الحكومات منها لضمان الحفاظ على مصداقيتها واستقلاليتها، والحذر من المجموعات الفاشية التي تعارض إسرائيل كرها في اليهود وليس تأييدا للحقوق الفلسطينية العادلة. كما أنه سيكون مفيدا مراعاة أن تكون نبرة التضامن مع فلسطين في الخطاب العربي جاذبة ومرحبة بمختلف العقائد والشعوب، مثلما كانت نبرة التضامن مع حركة مقاومة الأبرتايد في جنوب أفريقيا، والتركيز على أنها قضية إنسانية وأخلاقية لا يقتصر التضامن معها على أبناء عقيدة أو قومية معينة، وأنها لا تعادي أبناء أي عقيدة أو قومية أخرى، وإنما تقاوم الاحتلال. كما ينبغي تجنب ربط الممارسات الإسرائيلية باليهود، لا سيما وأن أغلب معتنقي الفكر الصهيوني المتعصب في العالم ليسوا يهودا، بينما يتبنى قطاع مهم من يهود العالم مواقف بالغة الاحترام في مساندة الحقوق الفلسطينية، يصل بالبعض إلى حد معارضة الفكر والمشروع الصهيوني ذاته.

المحور السادس والأخير في هذا السياق، وإن كان لا يقل أهمية عن المحاور السابقة، هو أن تعمل مصر، بالتعاون مع الأردن، الدولة التى تتفق رؤيتها ومصالحها مع رؤية ومصالح مصر أكثر من أي دولة أخرى، على صياغة موقف عربي موحد، ومشروع عمل عربي مشترك إزاء المحاور السابقة، لتعزيز قوة وفاعلية التحرك المصري. إلا أن هذا ينبغي أن يأتي بعد أن تبلور مصر رؤيتها على النحو السابق ذكره وليس قبله، وبعد أن تنشئ مصر توافقا مبدئيا حولها مع مجموعة نواة من الدول العربية، لكي تكون الرؤية المصرية أساس مناقشات بناء الرؤية المشتركة، ولتفادي تبعثر النقاش والأفكار على نحو لا يؤدي إلى نتيجة ذات قيمة.

هذا العمل يحتاج جهدا كبيرا ومعقدا لتطوير عناصره وصياغتها بشكل تفصيلي، ثم وضعها موضع التنفيذ، والمتابعة، وهو ما يتطلب تشكيل فرق عمل تضم خبرات متميزة ومتنوعة، وعملا دبلوماسيا وإعلاميا كبيرا، وتواصلا واسعا مع فاعلين مختلفين على مستوى العالم من مجتمع مدني، ومؤسسات دينية، وخبراء وأكاديميين وباحثين وغير ذلك. لكنه يتطلب قبل كل ذلك، إيمانا بأننا بصدد مهمة وطنية بالغة الأهمية والحساسية.

والحديث هنا لا يتعلق بالسعي للحفاظ على دور مصر كما يحلو للبعض القول، لأن الدول لا تسعى إلى دورها وتطلبه، وإنما يأتيها نتيجة ما تتخذه من مواقف وما تقوم به من تحركات بناء على مصالحها ورؤيتها ومسؤولياتها وقدراتها. ومن شأن اضطلاع مصر بدورها استنادا إلى مصالحها ورؤيتها ومسؤولياتها وقدراتها، التأثير في حسابات القوى الدولية وتعديل مواقفها لتكون أكثر اتفاقا مع متطلبات التسوية العادلة للقضية الفلسطينية، وأكثر حرصا على مصالح مصر العليا الاستراتيجية والاقتصادية والدبلوماسية.

("الشروق") المصرية

يتم التصفح الآن