لقد بدأت الدعوة إلى تعميم استخدام مصطلح الشرق الأوسط على يد الحاكم البريطاني للهند "اللورد كيرزون" في سنة 1911 للتدليل على "مناطق تركيا والخليج العربي وإيران في آسيا باعتبارها تمثّل الطريق للهند"، إذ كانت التجارة الأوروبية تتركّز حول الهند، وعقب الحرب العالمية الأولى تم إضافة دول المشرق العربي إلى المسمى الاستعماري "الشرق الأوسط"، وبنهاية الحرب العالمية الثانية وبدء قيادة الولايات المتحدة للعالم الغربي/الأطلسي تم توسيع النطاق الجغرافي للشرق الأوسط ليشمل "باكستان وأفغانستان وليبيا والسودان"، وفي القلب منه "إسرائيل" منذ نكبة 1948.
وتعكس "المطاطية" الجغرافية للشرق الأوسط أنه مصطلح "محض سياسي"؛ تم وضعه من قبل "الغير" - الغرب تحديدًا - وفقًا لمصالحه الاقتصادية والسياسية والعسكرية لاستمرارية الاستفادة من ثروات بلدان الشرق الأوسط وضمان ضخ الطاقة إلى ما لا نهاية بما يضمن استدامة تقدّمه من جهة، واستخدام هذه البلدان كأسواق لتصريف منتجاته من جهة ثانية، وضمان حضوره في المواقع الاستراتيجية من مطلات بحرية وممرات حيوية وغير ذلك من جهة ثالثة، وحصار الراديكاليين العرب ("القوميون واليسار" في مرحلة، و"الإسلاميون" في مرحلة تالية) من جهة رابعة، وحماية أمن إسرائيل قبل كل ما سبق.
حرص الغرب الأطلسي على أن تكون إسرائيل في المقدّمة والحيلولة دون تواصل دول المنظومة العربية مع بعضها
وتشير القراءة التاريخية إلى أنّ التأرجح حول مفهوم الشرق الأوسط، ونطاقه، والدول التي تنتمي إليه، يثبت، حسب أحد الباحثين، أنّ مفهوم الشرق الوسط ما هو إلا "مفهوم مجرد استراتيجي". ويؤكد ساطع الحصري، في مقاربة مهمة له، على أنّ "الاختلاف حول مدلول الشرق الأوسط يدل دلالة قاطعة على أنّ هذه التقسيمات والتصنيفات، لا تستند إلى أُسُس ثابتة من الجغرافيا الطبيعية أو البشرية، إنما هي تقسيمات اعتبارية، تسعى إلى تقريرها سياسة الدول الغربية، حسب ما تقتضيه مصالحها الاقتصادية، والإستراتيجية والاستعمارية".
فعلى مدى قرن من الزمان حرص الغرب الأطلسي - إضافة إلى ما سبق - على أمرين أساسيين هما؛ أولًا: أن تكون إسرائيل في المقدّمة دومًا بالنسبة لدول النطاق الجغرافي المسمى بالشرق الأوسط للتأكد من أنّ الاستراتيجية الغربية الأطلسية تنفّذ كما ينبغي في المراحل الزمنية المختلفة. ثانيًا: الحيلولة دون تواصل دول المنظومة العربية مع بعضها البعض.
ولا شك أنّ الحصاد النهائي لما حرص عليه الغرب الأطلسي قد تكلّل بالنجاح حيث بلغت ذروته في محطتين هامتين هما: هزيمة 1967 وغزو صدام حسين للكويت، حيث لم تستطع العروبة المواطنية زمن "ناصر" أن تصمد وتستمر، كذلك سرعان ما تقطّعت إرهاصة العروة الوثقى التي "تضفرت" على المستويات "العسكرية والاقتصادية والسياسية"، إبان حرب أكتوبر.
خلال هذه الفترة بقي الشرق الأوسط مرتهنًا للإرادة الأمريكية ـــ الإسرائيلية، بدرجة أو أخرى، وبقي الإقليم مُسيّرًا وفق الاستراتيجية العليا لهذا التحالف الوثيق خاصة في ظل قناعة سلطوية عربية بأنّ الولايات المتحدة الأمريكية هي الظهير الأمين للعرب بنسبة 99%. وجاءت إدارة بوش الابن - اليمينية المحافظة سياسيًا ودينيًا - في 2001 لتبدأ مرحلة جديدة بالنسبة للشرق الأوسط تتسم بما يلي:
أولًا: الإسقاط التام للوحدة السياسية المسماة بالنظام الإقليمي العربي لصالح منظومة الشرق الأوسط الجديد تارة، والكبير تارة ثانية، والسوقي - الديمقراطي تارة ثالثة. في هذا السياق، تمت محاولات رسم خرائط جديدة للشرق الأوسط تلائم التطلعات الأمريكية التوسعية الإمبراطورية (تطلعات اليمين المحافظ: الديني والسياسي)، والأطماع النفطية لكارتل الطاقة التي كان يمثّل مصالحها "ديك تشيني" في الألفية الجديدة.
ثانيًا: استمرارية الدعم المطلق لإسرائيل باعتبارها الركيزة الأولى لضمان الأمن الإقليمي بكفالة تفوّقها النوعي بالمطلق، وتعزيز قدراتها "الردعية"، ما استدعى الإعلان الأمريكي الصريح والواضح بمشروعية دفاع إسرائيل عن نفسها بالرد الانتقامي متى لزم الأمر، ومن ثم بدأ مخطط تهميش القضية الفلسطينية منذ العام 2000.
وفي الوقت نفسه، واكب ما سبق تراجع كثير من عناصر المقاومة التاريخية العربية عن ممارسة أدوارها في التصدي للمخططات الغربية والتي كان من أبرزها التحرّر من التبعية الاستعمارية وإنجاز اقتصاد وطني انتاجي الطابع وبناء دولة وطنية حديثة.
بيد أنّ حرب تموز 2006 جاءت لتكرّس وضعًا جديدًا في الإقليم، ألا وهو بزوغ مقاومة راديكالية في المنطقة تظاهرها إيران من جهة، كذلك حضور تركي فاعل من جهة أخرى، وقد كان من المفترض أنّ "حراكات" 2011 التي كانت تحمل مطالب "العدالة الاجتماعية، والحرية، والكرامة الانسانية"؛ الطبعة الجديدة من عناصر المقاومة التاريخية؛ أن تجدّد وتقوي وتعالج التراجعات التاريخية حتى تستمر في مقاومتها وتقلّل من تداعيات وتبعات التفكيك والهيمنة الغربية الأطلسية - الإسرائيلية على المنطقة، ولكن لم يحدث.
لا بد أن ننشغل بالتفكير في تفعيل التضامن العربي وصون الإقليم من الوقوع في فخ القبول بمنطقة متعددة الأقاليم
وبمرور الوقت، وبدلًا من أن يستعيد النظام العربي عافيته، تعقّد الوضع الذي تكرّس في المنطقة عقب حرب تموز، وتجلى بوضوح وبصورة أكثر تفصيلًا عقب انطلاق عملية "طوفان الأقصى"، إذ وجدنا دولًا حاضرة وفاعلة في المسرح الإقليمي وذلك على مستويين: الأول؛ المستوى المباشر كما في حالة إيران وتركيا، والثاني؛ المستوى غير المباشر كما في حالة روسيا والصين.
يضاف إلى ما سبق دور بعض الدول الأوروبية في اتخاذ مواقف يعتبرها التحالف الأطلسي خروجًا على موقفها الداعم بالمطلق للجانب الإسرائيلي، ونحن نثمّن – ولا شك - المواقف السابقة بمستوياتها المختلفة التي مثّلت دعمًا للمقاومة وحقها المشروع في الدفاع عن حقوقها "الحق في الأرض، وحق العودة، والحق في القدس.. "، ما أحدث، ولا شك، خلخلة في بنية الهيمنة التاريخية على الشرق الأوسط التي عمدت إلى احتواء النظام الإقليمي العربي فأضعفته عن الفعل من جانب، كما أحيت القضية الفلسطينية من جانب آخر.
وبعد؛ ظني، أنه لا بد أن ننشغل - بالتوازي مع دعم المقاومة الفلسطينية - بالتفكير في كيفية تعظيم زخم المقاومة، وكيفية دفع المؤازرين إلى تفعيل التضامن العربي وصون الإقليم من الوقوع في فخ القبول بمنطقة متعددة الأقاليم حيث يتكون كل إقليم من مجموعة دول تساندها دولة محورية ويظاهر كل منها أحد الأقطاب الدولية البازغة، ما يمثل تحديًا جديدًا لأنه سيباعد كثيرًا بين الدول العربية "ويدوّل" المنطقة إن جاز التعبير، وهو تحدٍ كبير علينا أن ندرك تداعياته على مستقبل المنطقة، خاصة وأنّ صفقة القرن كانت تمثّل إرهاصة تحالف النخبة الثروية العربية الإسرائيلية - الأمريكية على حساب عموم المواطنين العرب.
(خاص "عروبة 22")