فأردوغان، الذي رفض خططًا إسرائيلية، تم إطلاع تركيا وعدة دول عربية عليها، بشأن إقامة منطقة عازلة في غزّة بعد انتهاء الحرب، واعتبر أنّ هذا بمثابة "عدم احترام للفلسطينيين"، سعى من ناحية أخرى إلى تسويق دور جديد ومحتمل لبلاده كـ"وسيط سلام"، يتجاوز مفهوم الوساطة التقليدية إلى دور الضامن الذي يؤمّن له تواجدًا مستقبلًا مضمونًا بالضرورة.
لكن أردوغان، الذي يدرك الكلفة الاقتصادية لهذا الدور المحتمل، حرص على إشراك قطر، الدولة الخليجية الغنية بالنفط في مساعيه، إذ أوضح أنّ "أنقرة والدوحة يريدان إعادة بناء غزّة"، وأنّ بلاده مستعدة لأن تكون دولة ضامنة وأن تستضيف مؤتمرًا للسلام.
لجأ أردوغان إلى استراتيجية دعائية عبر التركيز على توجيه انتقادات علنية وكلامية إلى بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة الإسرائيلية، بينما اقترح على دولة الاحتلال "الطفل المدلّل للغرب" على حد تعبيره، "إعادة الأراضي التي تحتلّها وإنهاء الاستيطان، وأن تفكّر في كيفية بناء مستقبل آمن مع الفلسطينيين". كما لم يفوّت فرصة تهديد إسرائيل بمطاردة قادة حركة "حماس" في بلاده أو استهدافهم، دون تحذيرها من عواقب "خطيرة للغاية" لم يحدّدها.
لكن تلك التحوّلات، التي طرأت على خطاب أردوغان السياسي، لا تعدو سوى تبديل للمفردات يخدم النهج البراغماتي الموجّه لبوصلة سياسة تركيا، التي اعتادت توظيف الأزمات والصراعات الإقليمية والدولية، للخروج بأكبر قدر من المكاسب.
ويواجه أردوغان، اتهامات تردّد صداها مؤخرًا داخل البرلمان التركي، بتقديمه دعمًا عسكريًا غير معلن لإسرائيل في عدوانها على غزّة، بعدما فضح نجم الدين تشالشكان نائب رئيس "حزب السعادة" التركي المعارض حجم الدعم اللوجستي الواضح بهذا الخصوص، مشيرًا إلى أنّ الطيارين الذين قصفوا غزّة تدرّبوا في "قونيا" جنوب تركيا، فضلًا عن أنّ وقود طائراتهم وطعام جنودهم يأتي من مدن تركية أخرى.
كذلك أكدت وثائق إرسال تركيا ملابس للجيش الإسرائيلي، فشلت حكومة أردوغان في نفيها بشكل واضح واكتفت بالادعاء أنها مستندات ليست حديثة، لكنّ أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء التركي السابق ورئيس "حزب المستقبل" التركي، تحدى في المقابل أن ينفي أردوغان أو حكومته، المعلومات التي تحدّثت عن إبحار أكثر من 350 سفينة من شواطئ تركيا إلى إسرائيل، منذ بدء الحرب على غزّة.
أوغلو قال خلال اجتماع اللجنة المشتركة لحزبَي "المستقبل" و"السعادة"، إنّ الحكومة التي لم تنفِ توجّه أيّ سفن من بلاده إلى دولة الاحتلال، حاولت الدفاع عن موقفها من خلال التلاعب بالكلمات، وكشف النقاب عن أنّ هذه السفن تخصّ رجال أعمال يتمتعون بعلاقات مباشرة مع السلطة الحاكمة، متهمًا الحكومة التركية بإرسال العتاد والمعدات للجيش الإسرائيلي، وتلبية حاجة الدولة العبرية من الغذاء والوقود والحديد والصلب.
وبحسب إحصائية رسمية قدّمتها وزارة التجارة التركية، فقد صدّرت تركيا بضائع إلى إسرائيل بقيمة 320 مليون دولار أمريكي خلال الشهر الماضي، ما يعني استمرار التعاون الاقتصادي والتجاري بين الطرفين وعدم تأثّره بالحرب الإسرائيلية على غزّة.
وشكّك الكاتب العُماني علي بن مسعود المعشني، في كون أردوغان مقبولًا لإدارة غزّة في حال وُضِعت تحت وصاية أممية، لأنه لا يمثّل "الإخوان" ولا يمثّل "الإسلام" أصلًا، لافتًا إلى ارتباط تركيا مع إسرائيل بـ50 اتفاقية استراتيجية.
ومع ذلك فقد انضمّ أرودغان إلى قادة عرب في محاولة تشكيل تحالف مؤقت، تحت إشراف أممي لتحمّل مسؤولية إدارة غزّة لفترة زمنية محدودة، إذ طبقًا لمصادر عربية مطلعة تحدثت لـ"عروبة 22"، هناك معلومات عن استعداد مصر وتركيا والسعودية وقطر والإمارات، لتولي مسؤولية إدارة قطاع غزّة بشكل مؤقت بعد انتهاء الحرب، شريطة وجود خارطة طريق واضحة المعالم تنصّ صراحةً على إقامة الدولة الفلسطينية على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
وسبق لأردوغان، مستغلًا نجاحات محدودة حقّقها في قبرص وأذربيجان ومبادرة الحبوب في الحرب الأوكرانية-الروسية، أن أعرب عن استعداد تركيا لتولي المسؤولية مع دول أخري في هيكل أمني مقترح، بعد انتهاء الحرب في غزّة، بما في ذلك ما وصفه بـ"آلية الضامنين"، علمًا بأنه في المقابل لم يكشف عن ماهية وحدود الدور الأمني الذي يطمح إليه.
وبدا لوهلة أنّ الحديث عن تواجد الجيش التركي في غزّة فكرة تراود الكثيرين باعتبارها أمرًا محتملًا في إطار عمل لحلف "الناتو"، وكونها تتشابه مع تواجد قوات عسكرية تركية في ليبيا.
لكن واقع الأمر أنّ تصدّر مصر وقطر للوساطة في غزّة وتوالي الإشادات الأمريكية والغربية بدورهما الحاسم في الوصول إلى اتفاق الهدنة الإنسانية، عظّم من شعور تركيا بـ"عقدة نقص" بعد استبعادها عمليًا، رغم أنها تعتبر نفسها أحدَ اللاعبين الجيوسياسيين الرئيسيين في القضية الفلسطينية.
وراهن إسماعيل هنية، قائد حركة "حماس" في بدايات التقارب التركي المصري في ربيع عام 2021، على أنّ العلاقة بين مصر وتركيا ستخدم القضية الفلسطينية. ويرى باحثون في هذا المجال أنّ تركيا تعرض خدماتها كوسيط سلام بين إسرائيل و"حماس" وتبدي استعدادها للانخراط في الترتيبات الأمنية المستقبلية في غزّة بعد الحرب، في إطار رغبتها في تعظيم دورها كوسيط للسلام.
ومن وجهة نظر مصرية شبه رسمية، قال مسؤول مصري، طلب عدم الكشف عن اسمه، إنّ القاهرة منفتحة على التعامل بإيجابية مع أية أفكار تخدم القضية الفلسطينية، مؤكدًا أنّ مصر في هذه الحالة تحديدًا لن تحتكر العملين السياسي والإنساني أبدًا لدعم غزّة.
الكلام هنا، يوحي بقبول مصري لفكرة دخول أردوغان مجددًا إلى الساحة الفلسطينية عبر غزّة، "كون المشكلة هناك أكبر من قدرات وإمكانيات دولة منفردة" يضيف المسؤول المصري.
التفهّم المصري الظاهر، ينسحب بالضرورة على التفاهمات التي جرت مؤخرًا بين القاهرة وأنقرة وسمحت لأردوغان بالحديث المباشر إلى السلطات المسؤولة عن إدارة المنطقة الشرقية في ليبيا والذين هم حلفاء مصر بالضرورة.
وقد وافق البرلمان التركي، بأغلبية أعضائه، نهاية الشهر الماضي، على تمديد مهمة الجيش التركي في ليبيا لمدة عامين إضافيين، اعتبارًا من الثاني من شهر يناير/ كانون الثاني المقبل، استجابةً لمذكّرة رئاسية تحمل توقيع أردوغان، اعتبر خلالها أنّ "الجهود التي بدأتها ليبيا عقب أحداث فبراير/شباط 2011، لبناء مؤسسات ديمقراطية، ذهبت سدى بسبب النزاعات المسلّحة، التي أدّت إلى ظهور هيكلية إدارية مجزّأة هناك".
وأضافت أنّ حكومة الوفاق السابقة برئسة فايز السراج طلبت الدعم من تركيا نهاية 2019، مع ازدياد التهديدات الأمنية في البلاد، والهجوم الفاشل الذي شنّه الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر في الرابع من أبريل/نيسان 2019 للاستيلاء على العاصمة طرابلس.
وادعى أردوغان في مذكّرته أنّ الهدف من إرسال قوات تركية إلى ليبيا هو "حماية المصالح الوطنية في إطار القانون الدولي"، من دون أن يغفل إضافة مزاعم تبريرية أخرى من قبيل "الحفاظ على الأمن ضد المخاطر المحتملة".
وبات على فرقاء ليبيا، أن يتعايشوا مع وجود القوات التركية على أراضيهم لمدة 24 شهرًا، علمًا بأن تركيا أرسلت قواتها هناك مطلع عام 2020، وتم تمديد مهامها في 21 يونيو/ حزيران 2021 لـ18 شهرًا.
وبطبيعة الحال، فلم يكن دعم أنقرة مجّانًيا، حيث منح السراج لتركيا، عبر اتفاق مثير للجدل لترسيم الحدود البحريّة، حقوقًا في حقول الغاز البحريّة الرئيسية على حساب مصر وقبرص واليونان.
وبينما يتمنّع حفتر عن زيارة تركيا أو انتقادها علنًا، رغم أنه اجتمع مع سفيرها كنعان يلماز، مشترطًا انسحاب القوات التركية من الغرب الليبي، يستعد عقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي لزيارة تركيا للمرة الثانية، في تحوّل لافت للانتباه وكنتيجة للتفاهامات المصرية - التركية.
المفارقة هنا أنّ تركيا، التي رسّخت وجودها العسكري في غرب ليبيا، على حساب مصر، تسعى للعب دور مماثل في غزّة، وهو ما يضع صانع القرار المصري أمام مقاربة إقليمية، تتقدّم فيها المصالح المشتركة على ما عداها، لكنها بالضرورة تصطدم بالتاريخ والجغرافيا.
في كل الأحوال تتموضع تركيا عسكريًا حاليًا في أكثر من ساحة عربية، ويبدو طموحها لتكرار ذلك فى غزّة، مرتبطًا باستغلال وانتهاز الفرص المتاحة... وهذا تحديدًا ما تجيده.
(خاص "عروبة 22")