إنّ تأكيد نتنياهو مرّة أخرى، وكما سبق وقال في كتابه "مكان تحت الشمس"، بأنّ ميلاد الدولة الفلسطينية هو شهادة وفاة لدولة إسرائيل يعني أنه والمنظومة اليمينية الصهيونية السائدة حاليًا في إسرائيل ترفض "حل الدولتين"، وهنا اجتمع اليمين الليكودي التقليدي مع جماعات التطرّف والتحريض داخل الحكومة الإسرائيلية ليس فقط على رفض "حل الدولتين"، إنما على رفض الوجود الفلسطيني من الأساس في الضفة الغربية وقطاع غزّة والقدس الشرقية، أي حتى على الأراضي التي يفترض أن تقام عليها الدولة الفلسطينية المستقلّة وفق قرارات الشرعية الدولية التي لم تحترمها إسرائيل.
والحقيقة أنّ السؤال المطروح ماذا سنفعل نحن العرب وخاصة من قبلوا مسار "أوسلو" وظلّوا حتى اللحظة متمسّكين بـ"حل الدولتين" سواء من قادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير أو حتى حركة "حماس" التي غيّرت جانب من ميثاقها لتقبل بـ"حل الدولتين" ولو مؤقتًا؟.
جوهر الرفض هو في بنية العقلية الصهيونية المتطرّفة... وعلى القوى الفلسطينية والعربية الحيّة تقديم بديل
اللافت، أنّ منظمة التحرير منذ مسار "أوسلو" تتمسّك بـ"حل الدولتين"، كما أنّ المبادرات العربية منذ طرح مبادرة العاهل السعودي الملك عبد الله في مؤتمر القمة العربية في بيروت 2002 هي أيضًا تتمسّك بـ"حل الدولتين" ورفعت شعار دولة فلسطينية مستقلة في مقابل سلام دائم وتطبيع مع إسرائيل، وتصوّر وقتها كثيرون أنّ المشكلة في تشدّد البعض في العالم العربي ممن يرفضون "حل الدولتين" ويرفعون شعار تحرير فلسطين من البحر إلى النهر وليس في إسرائيل.
والحقيقة أنّ جوهر الرفض هو في بنية العقلية الصهيونية المتطرّفة المسيطرة على مفاصل الدولة العبرية وقطاع واسع من المجتمع، وليس الجانب العربي أو الفلسطيني وأنّ "حل الدولتين" حتى بالنسبة لقوى عربية وصفت بالتشدد كان مقبولًا باعتباره حلًا مرحليًا لا يؤثر على الهدف الغائي المتمثّل في بناء دولة مدنية واحدة في فلسطين التاريخية يعيش عليها العرب واليهود، ولم يطرح خطاب التحرّر الوطني العربي بكل طبعاته شعار إلقاء اليهود في البحر كما تروّج الدعاية الصهيونية.
والمؤكد أنّ على القوى الفلسطينية والعربية الحيّة، ومنها منظمة التحرير الفلسطينية، أن تتعامل مع الرفض المؤسّسي للصهيونية الحاكمة في إسرائيل لـ"حل الدولتين" - دفع حتى الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى انتقاده رغم قوله إنه ليس يهوديًا ولكنه صهيوني -، بعدم الاكتفاء بفضحه فقط، إنما أيضًا تقديم بديل لهذا الرفض الصهيوني لـ"حل الدولتين" الذي قبله كثير منا على طريقة المثل المصري الشهير "رضينا بالغلب والغلب لم يرضَ بنا".
والحقيقة أنّ هذا البديل سيكون في حل الدولة الواحدة، الذي لا يجب طرحه باعتباره مجرد شعار للاستهلاك المحلي يضاف لشعارات أخرى رفعها العرب لإبراء الذمة، وكانت نتيجتها مزيدًا من العجز في مواجهة السياسات العدوانية الإسرائيلية، لأنّ تبني هذا الهدف يتطلّب استحقاقات ورؤى جديدة تقوم على تعظيم خطاب نضالي شعبي ومدني يعمل على بناء دولة مساواة ومواطنة كاملة في فلسطين التاريخية أكثر من الخطاب العسكري، وهو أمر ليس سهلًا ويتطلّب تغييرًا في الطبيعة اليهودية للدولة التي وضعها نتنياهو كأساس دستوري وقانوني لإسرائيل، وأيضًا يصطدم بالسياسات العدوانية الإسرائيلية التي تغذي فصائل المقاومة المسلّحة وخاصة "حماس" و"الجهاد"، والتي تعتبر ردًا طبيعيًا على هذه السياسات العدوانية.
ومع ذلك سيبقى مشروع الدولة الفلسطينية الواحدة ليس مجرد شعار رفعته حركات التحرّر الوطني العربية بقيادة جمال عبد الناصر في ستينيات القرن الماضي ومعه منظمة التحرير الفلسطينية، إنما قام على رؤية سياسية متكاملة تقوم على رفض تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، والتمسّك بدولة مدنية واحدة في فلسطين التاريخية يعيش على أرضها المسلمون والمسيحيون واليهود.
طرح مشروع الدولة الواحدة سيعني عمليًا البناء على قاعدة التحالف الشعبي الذي طاف العالم لدعم القضية الفلسطينية
وإذا كان "حل الدولتين" وجد من يدافع عنه ولو بالكلمة الطيّبة في العالم كلّه بما فيه الإدارات الأمريكية ومختلف الدول الأوروبية والعربية، كذلك هناك فلسطينيون يتظاهرون من أجله في داخل الأراضي الفلسطينية وهناك مقاومون يطلقون صواريخهم على المستوطنات الإسرائيلية في محاولة للضغط على حكومتها من أجل القبول بـ"حل الدولتين"، وحتى عملية "طوفان الأقصى" قال قادة "حماس" بعدها إنهم يسعون لتحرير أرضهم من المحتل وفك الحصار على قطاع غزّة ومواجهة الإذلال الذي يتعرّض له الشعب الفلسطيني وإنهم يقبلون بـ"حل الدولتين".
ومع ذلك جاء الرفض لـ"حل الدولتين" من قبل نتنياهو ليس مجرد رفض عابر، إنما هو رفض مؤسّسي وعقائدي دعمته ممارسات إسرائيلية طبّقت عمليًا على الأرض وسياسات استيطانية قضت عمليًا على "حل الدولتين".
مشروع الدولة الواحدة قد يكون في المدى القصير أكثر صعوبة من مشروع الدولتين - الصعب أصلًا -، ولكن طرحه سيعني عمليًا البناء على قاعدة التحالف الشعبي العالمي الذي طاف العالم كلّه على مدار شهرين لدعم القضية الفلسطينية وسيجد حاضنة شعبية له بين عرب الداخل الذين يشكّلون ٢٠٪ من سكان فلسطين التاريخية، وهم بحكم المصلحة والواقع سيعملون على إحياء مشروع الدولة المدنية الواحدة.
(خاص "عروبة 22")