بمفهومه العام، يُعتبر الفن الساخر وفق المختصّين أحد أكثر الأنماط والوسائل الفنية والإبداعية تأثيرًا في المتلقي والجمهور، لأنّه يجمع بين طرفي النقيض في الآن نفسه، أي عرض المأساة التي قد تُبكي القلب في قالب كوميدي يخطف ابتسامة المشاهد.
وتعدّ الكوميديا السوداء أحد أكثر الأنماط المنتشرة للفن الساخر، لأنّها تجعل من معيش المواطن المقهور موضوعات لها، ومن ألاعيب السلطة وشططها تيمات لها، وهو ما يجعل هذا النمط الفني صعب الإنجاز، ولا يستطيعه أيّ كان، إذ يقتضي التوفر على شروط كثيرة تجعله فنًا وكوميديا ساخرة ناجحة.
وفي هذا الصدد يقول الباحث في الفنون التعبيرية أحمد طهور في تصريح لـ"عروبة 22" إنّ "الأغنية العاطفية لها جمهورها الواسع، وفيلم الحركة له جمهور شاسع، والمسرحية الهزلية لها جمهور رحب، لكن الفن الساخر، والكوميديا السوداء تحديدًا، له جمهور محدّد يتميّز بخصائص لا تتوفر في غيره"، معتبرًا أنّ "الجمهور المتذوّق للفن الساخر هو في الأصل جمهور ذكي ويحظى بذائقة رفيعة، فليس أي مشاهد يمكنه فهم الرسائل التي يبعثها مقدّم العرض الساخر، سواء كان مسرحًا أو سينما أو عرض "مان شو" وغيرها من الأشكال الفنية المتداولة".
واستطرد طهور بالإشارة إلى أنّ الفن الساخر، ومنه الكوميديا السوداء، هو بمثابة "الضحك الذي يشبه البكاء"، فالعرض الساخر "يخلق الضحك عند المتلقي، لكنّه في العمق تحفيز على استدرار البكاء في أعماق الذات البشرية والشخصية الإنسانية، فهو غالبًا ما يدور في أفق نقدي، لأنّه مثل المرآة التي تُظهر عيوب الشخص الواقف أمامها، فهي بهذا المفهوم مرآة حقيقية للمجتمع، أو "ترمومتر" تقيس به علله وأسقامه المختلفة، وكاشفة لما يدور فيه خصوصًا ما يهمّ المواطن المهموم والمغلوب على أمره".
عزف على الوتر الحسّاس
في المغرب، يمكن اعتبار الفنان أحمد السنوسي، الشهير بلقب "بزيز"، أحد أكبر رموز السخرية السوداء في البلاد، وفي المنطقة المغاربية أيضًا، بحكم الروابط الفنية الكبيرة التي تجمع بين الدول المغاربية، خاصّة خلال سنوات الثمانينيات عندما كان يشكّل ثنائيًا إلى جانب الفنان الحسين بنياز (باز)، وحتى في التسعينات وبداية الألفية الثالثة.
وقد لمع نجم رائد السخرية السوداء بعروضه الثنائية مع رفيقه قبل أن يفترقا، وكذا في عروضه الفردية التي كانت تستأثر باهتمام وإعجاب ملايين المغاربة، وكانت عروضه قوية تنتقد السلطة وتعري الواقع المعاش للمواطن المغلوب على أمره، وهو الذي يؤمن إيمانًا جازمًا بأنّ "السخرية هي العزف على الوتر الحسّاس"، كما نشر ذلك يومًا في صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك".
وكانت عروض بزيز، من قبيل "عرس الذيب" و"عام الضباب" و"أبو لهب" وغيرها تمتح من واقع المواطن الفقير والعامل المهمّش والموظف الصغير، كما كان يبدع في التلاعب بالألفاظ والكلمات لتوجيه سهام النقد اللاذع للسلطة، وهو ما تسبّب له في إثارة غضب السلطة التي منعته بشكل أو بآخر من الظهور في التلفزيون العمومي، قبل أن يتراجع إنتاجه بشكل لافت في السنوات الأخيرة.
وظهرت أسماء مرجعية في الفن الساخر في عدد من البلاد العربية، لعل أبرزها الأديب السوري الكبير محمد الماغوط الذي اشتهر بكتاباته الساخرة، وهو نفسه كان يقول إنّ الكتابة الساخرة هي "ذروة الألم". وهناك تجربة الفنان نهاد قلعي الذي شكل مع الفنان دريد لحام تجربةً لامعةً في الفن الساخر الذي يهتم بآلام الناس في الوطن العربي ويستشرف آمالهم.
وفي لبنان ظهرت أسماء كبيرة في مجال السخرية السوداء، لعلّ من أبرزها الفنان زياد الرحباني من خلال مسرحياته الساخرة التي تقطر بكوميديا سوداء يوجّه من خلالها أسلحته ضد "قمع السلطة" مثل مسرحيته "مجنون يحكي".
الفن الساخر في ميزان النقد
بالمقابل يقول الناقد الفني المغرب فؤاد زويريق لـ"عروبة 22"، إنّ الكوميديا السوداء أو السخرية السوداء في العالم العربي ما زالت بعيدةً جدًا عن تحقيق أهدافها ورسائلها الحقيقية في نقد الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تهمّ المجتمعات العربية بأسلوب نقدي ساخر مبتكر".
ويضيف زويريق موضحًا: "ما زالت الكثير من الخطوط الحمراء للأسف تتحكّم في هذا الجنس في شقيه الإعلامي كالبرامج التلفزيونية مثلًا أو الإذاعية، والفني كالسينما أو المسرح، وبالخصوص السخرية السياسية التي تفتقد للحرية في بلداننا العربية، بل نادرًا ما نجد تجارب إعلامية عربية في هذا الميدان"، لافتًا إلى أنّ "أشهر تجربة عربية في الشق الإعلامي تعود إلى الإعلامي المصري الساخر باسم يوسف، والذي توقف برنامجه بشكل اضطراري، بينما في المغرب مثلًا، لن تجد أفلامًا سينمائيةً أو تلفزيةً أو عروضًا مسرحيةً تستخدم السخرية السوداء أو السياسية بمفهومها الجاد والعميق، لأنّ الدولة هي المتحكّمة في هذا المجال ماديًا وتنظيميًا".
ويكمل زويريق: "في مصر مثلًا توجد أفلام سياسية وعروض مسرحية ساخرة، لكن نجد أنّ كل تجربة من هذه التجارب تعبّر عن حقبة سياسية معيّنة وتكون في الغالب منتهية، فبتواطؤ مع كل نظام جديد تنتج أفلام ومسلسلات ومسرحيات تنتقد بسخرية النظام الذي سبق، أما في لبنان قنجد مثل هذه الأعمال الفنية أيضًا لكن بجرأة أكثر، وكذلك في سوريا على الرغم من التضييق على الحريات السياسية ظهرت تجارب محدودة وبموافقة النظام نفسه، مثل تجربة مسلسل "مرايا" للممثل السوري الكبير ياسر العظمة".
وفي الخلاصة، يذهب زويريق إلى أنّ "الكوميديا أو السخرية السوداء من الظواهر الاجتماعية في البلدان العربية، متواجدة إعلاميًا وفنيًا لكن بضوابط معيّنة يتداخل فيها الدين بالأخلاق والعرف، وبالتالي لا حرية مطلقة في هذا الميدان لتبقى الكتابة الصحفية، كالأعمدة والمقالات الساخرة المكتوبة أكثر حرية من المادة البصرية، إذ توجد بعض الأريحية والتساهل من السلطات كونها لا تحقق التأثير والانتشار الواسع كما تفعل البرامج الإعلامية والأعمال الفنية".
(خاص "عروبة 22")