أضرار وجرائم الذّكاء الاصطناعي: من يتحمّل المسؤولية؟

يُشير القانون إلى مجموع القواعد العقلية التي تنظّم العلاقات الإنسانية في المجتمع. وكلّما ظهرت تحوّلات وتغيّرات مجتمعيّة محدّدة، انبرى المشرّعون وفقهاء القانون إلى الإحاطة بها وتنظيمها قانونيًا.

أضرار وجرائم الذّكاء الاصطناعي: من يتحمّل المسؤولية؟

نظرًا لزحف التّكنولوجيا، بخاصة الذّكاء الاصطناعي، على الحياة الإنسانية الحالية بكلّ مجالاتها، وتأثيرها المتزايد على النُّظُم الاجتماعية، كالنظام الاقتصادي والأنظمة التعليمية والصناعية والعسكرية وغيرها، الأمر الذي فتح المجال لظهور السيّارة ذاتية القيادة، والطائرات المُسيّرة المُسخّرة لأغراض القتال والتجسّس، والجرّاح الآلي، والقاضي الآلي، والطيار الآلي، والمأذون الآلي... كل ذلك استدعى ضرورة التنظيم القانوني لهذا الوضع، وتأطير المسؤولية القانونية (المدنية والجنائية) للذّكاء الاصطناعي، النّاتجة عن زيادة تدخله في الحياة الإنسانية، من حيث القدرة على التفكير والتعلّم واتخاذ القرارات وإلحاق الضرر بالآخرين، وارتكاب الجرائم.

الآلة الذكية شيء مختلف عن كل ما طوّره البشر سابقًا ما يفرض إيجاد "شخصيّة قانونيّة" تُحدد المسؤولية النّاجمة عنها

إنّه الأمر الذي دفع المُشرّع الأوروبي مثلًا، إلى منح الذّكاء الاصطناعي الخصوصيّة، لا لحمايته في ذاته فقط، بل لحماية المُجتمع أيضًا من الاستخدام غير المُنضبط أو غير القانوني لتطبيقاته وروبوتاته، خصوصًا وأنّه أصبح يتوفّر اليوم بوجودٍ ماديّ ملموس، ووجودٍ عقليّ موجّه أو مستقلّ لا يمكن تجاهله. وعليه فلا يمكن اعتباره مجرّد شيءٍ أو أداةٍ من الأدوات توظّفها هذه الإرادة أو تلك، بل إنّه آلة ذكية تفكّر وتتعلّم، ولها قدرة هائلة على التفاعل مع محيطها تتجاوز في بعض الأحيان القدرات البشرية، ممّا يجعلها كائنًا / شيئًا مختلفًا عن كلّ ما طوّره البشر سابقًا من أدواتٍ وتقنيّات. الأمر الذي بدأ يفرض منذ بضعة عقود خلت، ضرورة إيجاد حضور قانوني لها، أو بمعنى أصحّ "شخصيّة قانونيّة" تُمكّن من تحديد طبيعة المسؤولية النّاجمة عنها، على الرَّغم من أنّ هذا الخيار بدورِه، قد عارضه فقهاء آخرون، لأنّ الاعتراف بالشخصية القانونيّة للذّكاء الاصطناعي يفتح الباب للمُطوّرين والمُبرمجين للتخلّص من مسؤوليتهم عن أفعال الأجهزة التي قاموا بتصنيعها وبرمجتها للتصرّف وِفق إرادةٍ وأهدافٍ مخصوصةٍ بهم.

ولعلّ هذا ما جعل "المجلس الاقتصادي والاجتماعي الأوروبي" يمنح مصطلح "الشخص المُنقاد" بدل مصطلح "الشخصية القانونية"، باعتبار ذلك، بحسب أحد خبراء القانون، وسيلةً عقلانيةً تساعد على تأمين تطوّر منطقي ومتدرّج لهذه الآلات لا يخرج عن هذه المُحدّدات بكونها محكومةً حصرًا في الإرادة الإنسانية ومنقادةً وِفق توجّهات هذه الإرادة. إلّا أنّ البرلمان الأوروبي اعتبر المصطلح لا يفي بالغرض في بعض الوقائع والسياقات، ولذلك أوصى سنة 2017 بمنح الذّكاء الاصطناعي "شخصيةً إلكترونيةً"، تُميّزه عن مصطلح "الأشياء"، وتجعل له وضعًا قانونيًا مُحدّدًا يُمكّن على المدى البعيد من إثبات المسؤولية عن أي ضرر أو جريمة قد يتسبّب بها، في حال ثبوت استقلاليته عن الإرادة البشرية في اتخاذ القرارات.

ومن الدّول التي اعتمدت مصطلح الشخصية الإلكترونية للذكاء الاصطناعي، نجد السعودية، إذ منحت سنة 2017 الروبوت "صوفيا" الجنسية السعودية، وكان ذلك في إطار عرضٍ إعلاميّ خلال مؤتمر "مبادرة مستقبل الاستثمار" في مدينة الرياض، إلّا أنّ القرار تعرّض لانتقاداتٍ واسعةٍ داخل المملكة وخارجها، لأسبابٍ قانونيةٍ وأخلاقيةٍ واجتماعيةٍ، واعتُبِر غير مسبوقٍ في العالم، مع أنّه كان رمزيًا فقط، إذ لم يُمنح الروبوت أي حقوق ملموسة (المواطَنة، التعليم، الرعاية الصحية...).

التشخيص القانوني للذّكاء الاصطناعي حاضر بكثافة في نقاشات المشرّعين وفقهاء القضاء والقانون

بالنسبة للقضاء الأميركي، فقد أدّى الاجتهاد الفقهي إلى صكّ مُصطلح "النائب الإلكتروني"، بمعنى اعتبار الذّكاء الاصطناعي كائنًا آليًا بمنطقٍ بشريّ قادرٍ على التعلّم والتطوّر والتعقّل. في مقابل ذلك، تبنّى المُشرّع المغربي، موقفًا مغايرًا لموقف القانون المدني الأوروبي والأميركي، إذ استعمل مصطلح "حارس الأشياء"، لفرض المسؤولية المدنية والجنائية على المالك وليس على الآلة.

خلاصة القول، لا يزال التشخيص القانوني للذّكاء الاصطناعي (الشخصية القانونية) إلى اليوم، مجرّد اجتهادٍ فقهيّ لم يُعترف به بعد، لكنّه حاضر بكثافةٍ في نقاشات المشرّعين وفقهاء القضاء والقانون، من أجل بحث واستباق التطوّرات المتلاحقة التي يعرفها هذا المجال. ومن ثمّ الاستعداد لمعالجة المسؤولية المدنية والجنائية للذّكاء الاصطناعي، في حال توفّرت له فرص اتخاذ قرارات مستقلّة قد تُحدث أضرارًا أو تنتج عنها أشكال تقصيرٍ أو إهمالٍ أو جرائم، يتعذّر على القوانين الحالية الإحاطة بها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن