لقد غيّر الاتصال بالغرب في أواسط القرن التاسع عشر من طرق عيْشنا التي نستدلّ عليها من خلال تلك المنازل التي استلهمت العمارة الأوروبية في أواسط هذا القرن، إذ لم يقتصر الأمر على مبانٍ منفردة، لأنّ التجارة والدخول في عالم الاقتصاد الرّأسمالي أدّيا إلى إنشاء وسطٍ مديني. كان هذا الوسط تعبيرًا عن نشوء طبقةٍ وسطى تتعاطى التجارة والأعمال متأثرةً بآداب الغرب وعاداته، فإلى المنزل السكني المنفرد وُجدت الساحة العامّة والحديقة الخضراء والمقهى والفندق والمدرسة، وكلّها مبانٍ حاكت وقلّدت العمارة الغربية. وصارت لغات أخرى تُسمع في المدينة يتحدّث بها أبناء البلد او الزائرون الأجانب من التجار والقناصل والمغامرين الذين يريدون أن يزوروا بلاد الشرق.
على هذا النّحو، نشأ حيّزان مدينيّان قديم وحديث، لكن الحداثة كان لها ولا يزال طابعٌ توسّعي، عدا عن الإغراءات التي يحملها نمط العيش الغربي، فانتقل السكان الأثرياء إلى منازل في الحيّز الحديث من المدينة لسهولة التنقّل وتعدّد الخدمات. وفي نهاية النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت المدن القديمة عرضةً للقضم وإزالة المعالم وتوسعة الدروب والأزقّة من دون شفقة. فتيّار التحديث العمراني كان طاغيًا كالنّهر الجارف، حسب تعبير خير الدين التونسي أحد أبرز نهضويي ومحدّثي القرن التاسع عشر. ونعلم أنّ الخديوي إسماعيل (1863-1879) كان زار باريس وأُعجب بما أدخله إليها البارون جورج-أوجين هوسمان من نظامٍ وشوارع عريضةٍ ومبانٍ متناسقة، فطلب إلى هوسمان النّصح فمدّه بمُهندسَيْن. وأوْكل الخديوي إلى علي مبارك وهو أحد رجال نهضة مصر، أن يُنشِئ باريس على ضفاف النيل، فأعمل المِعول في أطراف المدينة الفاطمية المملوكية ليبنيَ القصور والفنادق، استعدادًا لافتتاح قناة السويس عام 1869.
فترة الحملة المصرية كانت فرصة ذهبية لازدهار مدينة بيروت بعد افتتاح الكرنتينا ونموّ التجارة عبر مرفأ المدينة
ينبغي أن نقرَّ بأنّ المدينة القديمة بدروبها وأزقّتها، كانت تعاني من نقصٍ في الخدمات، وخصوصًا في جرّ المياه والصّرف الصحي، عدا عن الرطوبة التي تساعد على انتشار الأمراض. لهذا، فإنّ شغف الحكّام والأثرياء بالخدمات التي تُقدّمها هندسة المدينة الحديثة قد شجّع على عمليات الهدم وتوسعة مسالك المدينة القديمة وهدم معالمِها ابتداءً من أطرافها.
وفي لبنان، نعلم أنّ فترة الحملة المصرية (1831-1840)، كانت بمثابة الفرصة الذّهبية لازدهار مدينة بيروت بعد افتتاح الكرنتينا ونموّ التجارة عبر مرفأ المدينة. وعلى امتداد القرن التاسع عشر، عرفت بيروت نموًّا فريدًا ترافق مع إنشاء الوكالات التجارية والمصارف والمقاهي والفنادق والحدائق العامّة والمدارس والجامعتيْن الأميركية، واليسوعية، والمطابع التي تطبع الكتب والصحف وكل ذلك يتجسّد في مبانٍ مطابقةٍ لغاياتها. ولنا أن نتخيّل مدى اتّساع العمران الحديث إذ إنّ بيروت لم يكن عدد سكانها يزيد على خمسة آلاف نسمة في مطلع القرن التاسع عشر، يعيشون في منازل متواضعةٍ وأزقّةٍ ضيقةٍ ضمن السّور، ليصبح عدد سكانها مئة ألف نسمة في مطلع القرن العشرين. هذه الزيادة السكّانية من أهلها والوافدين إليها للسكن أو العمل أو الدراسة اقتضت توسّعًا في العمران الحديث الذي لم يتوقّف عن قضم المدينة القديمة. وعلى الرَّغم من الطابع العشوائي لقضم وهدم المدينة القديمة، إلّا أنّه كان ينمّ عن عقيدة العمران الحديث الذي أصبح نموذجها الطريق المستقيم والمبنى المنفصل والمُتخصص.
قرارات الهدم والتحديث لا تخلو أغراضها من فرض رؤية السلطات الحاكمة والقبض على المدينة
وفي مطلع القرن العشرين، أصبح الهدم منهجيًّا، وذلك بعد الانقلاب الدستوري الذي قامت به جماعة "الاتحاد والترقّي"، لنقول إنّ العمارة لا تنفصل عن السياسة والأفكار والمُعتقدات، فقد كان أعضاء "الاتحاد والترقّي" من أتباع الوضعية الاجتماعية حسب عالم الاجتماع والمفكر الفرنسي أوغست كونت، يؤمنون بالعِلم والحداثة والخط المستقيم. لهذا فإنّ الوالي العثماني عزمي بيك، وفي خضمّ الحرب العالمية الأولى عام 1915، احتفل ببداية الشروع بعمليات الهدْم بحضور القادة الروحيّين وكبار موظفي الدولة على أنغام موسيقى المدرسة الإسلامية للتعليم. ويفصّل روبير دبّاس في كتابه "بيروت ذاكرتنا"، أنّ لجنةً بلديةً قد تشكّلت سابقًا لتقييم المباني المطلوب هدمها، ويقول: "كثيرةٌ هي الأبنية الأثرية التي اختفت خلال عمليات الهدم: باب الدركة ومسجده وحمّامه التركي وكنيسة المسكوب، وذلك لتخطيط شارع المعرض، أمّا بغية شقّ ما أصبح لاحقًا شارع فوش، فتمّ التخلّي عن جامع البدوي وجامع الدباغة. وقد بُني محل هذا الأخير جامع الصدّيق. كما ظهرت خلال عمليات الهدم بقايا كنيسة بيزنطية ما لبثت أن هُدمت واستُعملت حجارتها لبناء حائط دعمٍ لما أصبح لاحقًا جادّة الفرنسيين".ا ا
وحين دخل الحلفاء عام 1918، وجدوا وسط المدينة مدمّرًا جزئيًا، فباشروا سريعًا بهدم المنطقة الواقعة بين شارعَيْ اللّنبي وفوش من جهة، وشارعَيْ المعرض وفخر الدين من جهةٍ أخرى. وابتداءً من سنة 1922، اختفى جامع شمس الدين وسوق البازركان وأكثر الخانات القديمة، عندها، تمّ تجهيز ساحة النجمة، فكانت نقطة الانطلاق لبناء وسط المدينة في الثلاثينيّات.
كانت السلطات الحاكمة هي التي تتّخذ قرارات الهدم والتحديث التي لا تخلو أغراضها من فرض رؤيتها والقبض على المدينة، أمّا أعيان المدن فقد تخلّوا عن تحفّظاتهم وأيّدوا أو شاركوا في عمليات هدم وإزالة المعالم القديمة.
يمكن أن نشيرَ إلى مَثَلٍ آخر. ففي بداية الحرب العالمية الأولى، قام موظفان حكوميان بإعداد تقريرٍ عن ولاية بيروت بطلب من عزمي بيك نفسِه، الذي كان واليًا على بيروت والتي كانت تمتدّ مساحاتها من اللاذقية إلى عكا.
بعد طوفان نهر "أبي علي" تقرّر توسعة مجراه فأزيلت معالم كثيرة قضت على الجزء الكبير من المدينة المملوكية
يصل الكاتبان إلى طرابلس التي اعتبراها أبهى بلدة في ساحل سوريا وهي معرضٌ فخمٌ للبدائِع والمحاسِن. ويمتدح الكاتبان الحيّز الحديث من المدينة: "أصبح موقع التّل له الوقع العظيم في تلك البلدة، بما فيه من الشوارع الواسعة والمباني الرّصينة وما زال يتدرّج في الرّقي. ويمكن القول إنّ طرابلس الجديدة عبارة عن هذا الموقع. أمّا طرابلس القديمة فهي عين دمشق القديمة والبيوت في هذا القسم، وإن وجد في بعضها رياض صغيرة. وبينها دروب ضيّقة، ولكنّها متصلة ومسوّرة بالجدران الطويلة... ثم إنّ الرطوبة التي أحدثها رشح المياه من المجاري المارَّة في أسفل الجدران، والعفونة القذرة التي تنبعثُ من مجاري المراحيض تحت الطرق جعلت ممر هاتيك البيوت لا يُسلك. ومهما ادّعى بعض مدافعي طرابلس بأنّ بيوتهم الوسخة، التي يظنّها الإنسان مهيّأةً للسقوط على رأسه، هي نظيفة نقيّة من الداخل، فعندي لها الرأي الذي لا يتزلزل... وهو أنّها لمِن الشوائب المدنيّة والصحيّة في طرابلس، فعليه يجب أن تختم حياتها، ولا يُجعل لها نصيب بعمرٍ أكثر من هذا".
لم تهدم المدينة القديمة في طرابلس آنذاك. ولكن عمليات القضم وتوسعة الشوارع وإنشاء الساحات كانت متواصلةً خلال النصف الأول من القرن العشرين. وبعد طوفان نهر "أبي علي" في 17/12/1960، تقرّر توسعة مجراه فأزيلت معالم كثيرة قضت على الجزء الكبير من المدينة المملوكية وسْط ترحيب الأهالي، في وقتٍ كانت موجة الانتقال من المدينة القديمة قد بلغت ذروتها، فنشأت مناطق جديدة على عجلٍ من دون مراعاة التنظيم المُدني.
(خاص "عروبة 22")