تشترك إسرائيل وإثيوبيا وجماعة الحوثي اليمنية - برعاية آخرين - في تهديد حركة الملاحة بالمدخل الجنوبي للبحر الأحمر، يتحول باب المندب، يوما بعد يوم إلى حلبة صراع، في قلب شبكة معقدة من التفاعلات الإقليمية والدولية، تؤثر سلبيا على الممر الأهم في العالم - تعبره 23 ألف سفينة سنويا - ومن ثم على الاقتصاد العالمي.
«صواعق التفجير» تمثلت بإطلاق الحوثيين صواريخ ومسيرات باتجاه إسرائيل واستولوا على سفينة تابعة لها، على خلفية عدوانها على غزة، بموازاة مساعي إثيوبيا لانتزاع ميناء بحري وقاعدة عسكرية على شاطئ البحر الأحمر، برغم أنها لا تطل عليه. تكاد المصالح الإسرائيلية - الإثيوبية تتطابق في البحر الأحمر والقرن الإفريقي، تمتد العلاقات الاستراتيجية بين البلدين منذ أبرمت إثيوبيا- بدلا من إسرائيل ونيابة عنها - عقدا مع تشيكوسلوفاكيا لشراء أسلحة، عقب الحرب العربية - الإسرائيلية عام 1948، وفقا لورقة بحثية قدمها الباحث الإسرائيلي أوري لوبراني، علاقة تعمقت، سعيا لمنع تحول البحر الأحمر إلى بحيرة عربية ومحاصرة النفوذ المصري في حوض النيل، ولا تزال الدولتان تستهدفان المصالح العربية والأمن الإقليمي بإثارة القلاقل في المنطقة.
وبرغم اختلاف النوايا والأهداف، فإن سلوك جماعة الحوثي - بتوجيه من أطراف أخرى - لا يؤثر في المصالح الإسرائيلية فحسب، بل في سلامة الملاحة عبر البحر الأحمر وسلاسل التوريد العالمية، الهجمات الحوثية على السفن الإسرائيلية أو غيرها لدعم غزة، مجرد أفعال رمزية، وربما تعتبرها فرصة لاختبار أسلحة وقدرات عسكرية، تحسبا لأي تصعيد إقليمي، لكن العالم لا يحتمل السلوكيات الحوثية، مثلما يضيق ذرعا بالوحشية الإسرائيلية الفظيعة تجاه الأبرياء في غزة. الولايات المتحدة التي تضمن أمن إسرائيل وتساند عدوانها على القطاع تسعى لكبح الحوثيين، قال جيك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكى إن المتمردين الحوثيين يشكلون تهديدا ملموسا لحرية الملاحة، وصرح تيم ليندركينج المبعوث الأمريكي لليمن بأن واشنطن تريد تشكيل أوسع تحالف بحري ممكن لحماية السفن بالبحر الأحمر، وإرسال إشارة إلى الحوثيين بأن العالم لن يتسامح مع مزيد من الهجمات.
يظل البحر الأحمر محط أنظار القوى الكبرى، لأنه عنصر فائق الأهمية والتأثير في مستقبل المنطقة والعالم. البحر الأحمر بالمفهوم الجيوسياسي أكثر اتساعا منه بالحيز الجغرافي الذي يشغله، النطاق الجيوبوليتكي للبحر الأحمر هائل الاتساع، يمكن أن يشمل الخريطة السياسية للعالم كله، كممر مائي هو محور الربط بين قارات العالم القديم آسيا وإفريقيا وأوروبا والبحر المتوسط والخليج العربي والمحيطين الهندي والأطلسي، إنه القطب الذي تتلاقى فيه مصالح دول ذات مصالح متقاطعة وأحجام وأوزان متنوعة، سياسيا واقتصاديا وعسكريا واستراتيجيا. لا يقتصر دور البحر الأحمر على الدول المطلة عليه - مصر والسودان والأردن والسعودية واليمن وجيبوتي وإريتريا وإسرائيل - الذي يشكل عمقا استراتيجيا لها، بل يتعداها ليشمل الدول المرتبطة به سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا أو استراتيجيا، تدخل مناطق: القرن الإفريقي ضمن نطاق المفهوم الجيوسياسي للبحر الأحمر، والخليج العربي باعتبار أن معظم صادراته النفطية تمرّ به، بالقياس نفسه، يمكن القول إن دول أوروبا الصناعية لها علاقة جيوسياسية بالبحر الأحمر، لاعتمادها على نفط الخليج، أيضا الصين والهند واليابان وروسيا بوصفها قوى عالمية مؤثرة ولها مصالح تجارية واستراتيجية عبر البحر، ولا تخرج الولايات المتحدة عن حيزه الجيوسياسي، حيث يمر نفط الخليج الذي تحتكر معظم إنتاجه وتجارته الشركات الأمريكية. تطوق واشنطن البحر الأحمر، ترابط أساطيلها من حوله: الأسطول الخامس بالبحر الأحمر والخليج، والسادس بالبحر المتوسط، والسابع بالمحيط الهندي، والثاني في الأطلسي.
يتضح من ذلك أن النطاق الجيوسياسي للبحر الأحمر يمكن أن يسع الخريطة السياسية للعالم؛ خصائص تدفع به إلى الصدارة من حيث الأهمية الجيوسياسية، منطقة شديدة الحساسية، بحيرة شبه مغلقة؛ لوجود اختناقات جغرافية تتحكم بمداخله، ومن ثم فإن تهديد الملاحة فيه يثير القلق بأوساط النقل الدولي ويؤثر في سلاسل الإمداد والتوريد؛ وبالتالي مزيد من التضخم والانتكاس للاقتصاد العالمي، ما يزيد المخاوف من تأجيج صراعات أوسع تستقطب قوى إقليمية ودولية متحفزة، في ظل غياب نظام أمني إقليمي يكفل سلامة الملاحة عند «باب الدموع».
إن الحديث عن استراتيجية للأمن بالبحر الأحمر، يتناول كتلة جغرافية واسعة تشمل أيضا البحر المتوسط والخليج العربي. ولعل نقطة البدء تتمثل في «تبريد الجبهات»؛ ينبغي أن تنهض القوى الكبرى بأدوارها بشكل لائق، خاصة ممارسة ضغوط حقيقية على الإسرائيليين والإثيوبيين ورعاة الحوثيين؛ لوقف مسببات الاضطراب والصدام بالبحر الأحمر، من خلال لجم الجرائم التوسعية العدوانية من جانب الإسرائيليين والإثيوبيين، والتخريب الحوثي عند باب المندب؛ حتى لا يقع الاقتصاد العالمي في هوة جديدة، بعد كورونا والحرب في أوكرانيا.
السلام العادل في الشرق الأوسط وكبح أطماع اللاعبين من خلف الستار من الدول، والفاعلين من غير الدول ركائز أساسية لحماية الأمن القومي العربي والسلم الدولي؛ لأن البحر الأحمر يمثل نواة الكتلة الاستراتيجية التي تضم البحر المتوسط والخليج وما حولهما من بر والمحيطين الهندي والأطلسي، حيث تتلاقى أو تتصادم استراتيجيات ومصالح إقليمية ودولية، وعلى الجميع العمل على تحييد هذا الشريان الملاحي الأهم بين الشرق والغرب، بعيدا عن الأطماع أو تصفية الحسابات؛ حتى لا يصبح باب المندب بؤرة لتوتر لا يعلم أحد مداه ونتائجه!.
("الأهرام") المصرية