التاريخ الماكر شديد الدهاء قويّ الذاكرة، ينتصر باستمرار للأفكار الصحيحة ويردّ لها الاعتبار ويقوم بإنزالها مرّة أخرى من رفوف النسيان مزيلًا عنها الغبار، وفي تلك اللحظة يمكن القول إنّ التاريخ يعيد تقديم الفكرة العربية لأجيال جديدة علّها تفلح في إنجاز المهام الكبرى التي عجز آباؤهم عن تحقيقها.
انكشاف إخفاق نخبة حكم دولة الاستقلال الوطني في إنجاز مهام الدولة الحديثة كان مهولًا
لماذا يعتقد محلّلون أنّ التاريخ يعود الآن بعد نصف قرن من الغياب ليعطي مشروع العروبة قبلة الحياة وفرصة نادرة لاستعادة زمام المبادرة الفكرية والسياسية ومعها إمكانات حقيقية لإعادة تنظيم ديمقراطية -هذه المرة - للجماهير تحت راية العروبة؟.
تفكّك الدولة القُطرية
الدولة القُطرية العربية نافحت المشروع القومي واعتبرته خطرًا يهدّد وجودها؛ تآمرت عليه منذ صعوده التاريخي واستحواذه بعد تأميم قناة السويس عام ١٩٥٦ على الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، ووجّهت إليه طعنات متتالية في ظهره بانفصال الوحدة المصرية/ السورية عام ١٩٦١ وهزيمة عام ١٩٦٧، حتى قضت عليه تمامًا بعد خروج مصر من الصراع العربي الإسرائيلي بعد توقيع كامب ديفيد عام ١٩٧٨. لكن هذه الدولة كانت دون أن تدري تُفكّك قوائم وجودها نفسه، إذ في غياب هذا المشروع العروبي الجامع العابر للولاءات الفرعية الإثنية والدينية والمذهبية تبدّت كل سوءات الدولة الوطنية العربية وفشلها في تحقيق الاندماج والمصالحة الوطنية وتشييد دولة المواطنة التي تقوم على المساواة وعدالة التوزيع ودولة القانون.
عندما اختفى المشروع العربي الجامع اختفى معه الملاط الذي كان يجمع جدار الدولة العربية القُطرية مع بعضها البعض
انكشاف إخفاق نخبة حكم دولة الاستقلال الوطني في إنجاز المهام الأساسية للدولة الحديثة كان مهولًا، إذ تكفّل أوّل تحد حقيقي تواجهه هذه الدولة في مرحلة ما عُرف بالربيع العربي بتفكيك الدولة الوطنية، ووضع دول مثل السودان وليبيا والعراق واليمن وسوريا ولبنان والبحرين على حافة جرف هاو. وتتهدّد دول أخرى مطالبات داخلية انفصالية أو عمليات خروج على الدولة علنية ومستترة، كما ترزح أو تحتلّ قوى عسكرية أجنبية أجزاء من أراضي دول عربية بتوافق مع حكومات أو بالقوة وفرض الأمر الواقع سواء من خارج الإقليم أو من دول الجوار الجغرافي التركية والإيرانية والإثيوبية، فيما امتدّ تلاعب إسرائيل بالنسيج الداخلي للدول العربية ليتعدى دول الجوار ليصل الآن إلى الخليج وأقصى المغرب العربي بعد اتفاقات إبراهام.
عندما اختفى المشروع العربي الجامع الذي كان قد وحّد تحت رايته مسيحيي ومسلمي العالم العربي وسنّته وشيعته، ووضع مطالب الأمازيغ والأكراد.. إلخ، فقط، في إطار الاعتراف بهويتهم الثقافية والحصول على درجات حكم ذاتي في إطار المشروع العربي، وجعل فكرة الدور القيادي للإقليم فكرة مقنعة للجماهير.. عندما اختفى هذا المشروع اختفى معه الأسمنت أو الملاط الذي كان يجمع جدار الدولة العربية القُطرية مع بعضها البعض، فتهدّم حجرًا فوق حجر وانفجرت بعدها في وجهها كلّ المرارات المتراكمة عقودًا من ممارسات هذه الدولة في الاستبداد والفساد وسوء توزيع الثروة.
أُفول المشروعات الأخرى
ترافق فشل الدولة القُطرية وتفكّك أواصر وحدتها الوطنية أو استباحة القوات الأجنبية لأراضيها مع سقوط مدو لمشروع الإسلام السياسي في الحكم، وهو التيار الذي هيمن على المشهد العربي في الـ٣٥ سنة الأخيرة، سواءً قبل الربيع العربي في كل من السودان واليمن أو بعد الربيع العربي في تونس ومصر. لكن السقوط الأعظم لهذا المشروع كان في تحوّل قسم وازن منه إلى مشروع معادٍ للحياة نفسها في صورة إرهاب لم ينجُ من شرّه غرب ولا شرق وتوحّش متعطّش للدماء تفصح عنه نسخة "داعش" المجنونة.
مفكّرو التيار القومي مدعوون لنقد بعض أطروحاتهم التي أخافت نخبة الدولة الوطنية
وترافق مع هذا السقوط تداعٍ جزئي آخر للمشروع الليبرالي الوطني العربي الذي قاد التنوير والنهضة العربية في القرن العشرين وقاد لفترة معيّنة كفاح التحرر من الاستعمار -حزب الوفد المصري نموذجًا-، ليتحوّل قسم منه بعد الصلح المشؤوم مع إسرائيل إلى تيار «نيو ليبرالي» منبت الصلة بميراث الزعماء الليبراليين الوطنيين الكبار من أمثال سعد زغلول والنحاس.
إنّ الدولة الوطنية العربية في حاجة ماسة لإعادة نقد تراثها المُستريب والمتخوّف من المشروع العربي الجامع، وإنّ مفكّري التيار القومي مدعوون لنقد بعض أطروحاتهم المتطرّفة التي أخافت نخبة الدولة الوطنية.
هناك فرصة تاريخية لإعادة الأمة على طريق المستقبل ووقف خروجها من التاريخ.. نأمل ألا تكون فرصةً ضائعةً أخرى.
(خاص "عروبة 22")