في السياق العربي، معلوم أنّ أغلب دول المنطقة تتعامل مع اللغة الإنجليزية باعتبارها اللغة الثانية في التعليم، وليس الفرنسية، كما هو سائد في دول المغربي العربي، والحال أنّ لغة العلوم اليوم في العالم بأسره، وهي لغة أغلب الفائزين بجوائز نوبل، هي اللغة الإنجليزية.
خلال العام الماضي وجّه وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة، شكيب بنموسى، مذكّرة إلى المسؤولين المركزيين ومديري مؤسّسات التعليم الإعدادي وأساتذة اللغة الإنجليزية بالتعليم الإعدادي، يؤكّد فيها أنّ عملية تعميم تدريس اللغة الإنجليزية بالتعليم الإعدادي ستتم على مراحل محددة، حيث سيتمّ ابتداءً من الموسم الدراسي 2024-2023، إرساء اللغة الإنجليزية في السنة الأولى من التعليم الإعدادي بنسبة تغطية تصل إلى 10%، وفي السنة الثانية من التعليم الإعدادي بنسبة 50%، على أن يتمّ تعميم تدريس هذه اللغة بنسبة 100% في السنة الثانية من هذه المرحلة التعليمية خلال الموسم الدراسي 2025- 2026، لتستمر هذه النسبة في جميع مستويات الطور التعليمي المغربي.
ويعتمد النظام التعليمي بالمغرب اللغة الفرنسية كلغة ثانية تدرّس منذ مرحلة التعليم الابتدائي، كما تُستخدم في تدريس المواد العلمية والتقنية في المرحلة الثانوية والجامعية، بينما يتمّ تدريس الإنجليزية ابتداءً من السنة الثالثة في المرحلة الإعدادية وحتى سلك البكالوريا (الثانوية العامة)، قبل أن يتمّ اتخاذ قرار تعميمها انطلاقًا من السنة الأولى في المرحلة الإعدادية.
ساعات قليلة وموارد غير كافية
في هذا السياق، يعتبر الخبير التربوي ورئيس مؤسّسة "أماكن لجودة التعليم"، عبد الناصر الناجي، في تصريح لـ"عروبة 22" أنّ اللغة الإنجليزية هي "الأكثر انتشارًا وهي لغة العلم" في العالم، كما أنّ الدستور المغربي عندما تحدّث عن اللغات الأجنبية فإنّه يحدّد معيار اللغة الأكثر تداولًا عالميًا، "وهذا ما ينطبق على اللغة الإنجليزية".
ورغم هذا التوجّه، فإنّ الخبير التربوي نفسه، لا يعتقد بوجود سياسة واضحة لجعل اللغة الإنجليزية كبديل للغة الفرنسية، خصوصًا وأنّ عدد الساعات (ساعتين في الأسبوع) المحدّدة في التعليم الإعدادي لهذه اللغة لا تكفي لكي يتمكّن المتعلّم من الحد الأدنى من الكفايات في اللغة الإنجليزية، موضحًا أنّ "هذه المدة تظل غير كافية لبلوغ الدرجة الأولى للسلم المعياري للتحكّم في اللغات، أي عدم استطاعة التلميذ تعلّم المواد العلمية باللغة الإنجليزية خلال مرحلة الثانوي التأهيلي".
من جهته، يرى رئيس المعهد المغربي لتحليل السياسات، محمد مصباح، في تصريح لـ"عروبة 22" أنّه لإنجاح هذا التوجّه "لا بد من استحضار عدد من الرهانات التي يتطلّب كسبها، ويتعلّق الأمر بأن تصبح اللغة الإنجليزية جزءًا من استراتيجية عامة، لا أن يقتصر الأمر على التعليم فقط، بل ينبغي أن يطال المجال الاقتصادي أيضًا"، لافتًا إلى أنّ "الاقتصاد بالمغرب رهين بالفرنكفونية، وهو ما يستدعي وضع استراتيجية وطنية تشمل جميع المجالات التي ينبغي أن تدمج بها اللغة الإنجليزية".
ومن الرهانات أيضًا، حسب الباحث نفسه، أن تعمل الدولة على توفير الموارد المالية والبشرية الكافية لإنجاح هذه العملية، مع الاستثمار في كل المجالات التي لها علاقة بالتعليم، وهو الأمر الذي لا زال في حاجة إلى تطوير وتوضيح، إضافة إلى رهان قبول الرأي العام المغربي الذي يبدو أنّه غير معارض للتوجّه نحو الإنجليزية، باستثناء "التيار الفرنكوفوني".
على حساب اللغة العربية
لكن رغم قرار الحكومة المغربية، يقول الناجي: "إنّ الاهتمام الذي أصبح يوليه المغرب للغة الإنجليزية، لا يمكن أن يكون على حساب اللغة الفرنسية بل سيكون على حساب اللغات الوطنية الرسمية، وخاصة اللغة العربية"، ويضيف الخبير التربوي، أنّه استنادًا إلى دراسات في هذا المجال، فقد تبيّن أنّه "عندما تمّ إدخال مبدأ التناوب اللغوي، أي تدريس المواد العلمية والتقنية باللغة الفرنسية، أصبحت اللغة الفرنسية هي المهيمنة حيث انتقلت من الثلث إلى الثلثين، من الوقت العام للتعليم في المغرب في الزمن المدرسي"، بمعنى أنّ الانفتاح على اللغة الإنجليزية، سيعزّز من حضورها ويقلّص من حضور اللغة العربية.
وسبق لوزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار عبد اللطيف ميراوي، أنّ دافع خلال شهر أيلول/سبتمبر الماضي، في ندوة صحفية، عن استعمال الفرنسية في التعليم الجامعي المغربي، رافضًا إقحام موضوع اللغات في السياسة من خلال دعوات المطالبة بإلغاء الفرنسية وتعويضها بالإنجليزية. وأضاف قائلًا: "لن نحذف لغة ونعوّضها بأخرى بل سنضيف لغات جديدة للتدريس من أجل ضمان انفتاح الطلبة المغاربة على العالم الخارجي".
غير أنّ الناجي يعرب عن قناعته بأنّ اللغة الفرنسية تظل هي المهيمنة على "سوق اللغة" بالتعليم، على الرغم من المجهودات المبذولة على المستوى الرسمي من أجل جعل الإنجليزية الأكثر تداولًا على المستوى المدرسي وعلى مستوى التعليم العالي، لأنّ "اللغة الفرنسية هي السائدة في المغرب لأسباب تاريخية معروفة، وستظل كذلك".
وعرف المغرب العام الماضي، حملات من لدن نشطاء مغاربة يطالبون بالتخلي عن اللغة الفرنسية، وإقرار اللغة الإنجليزية في المؤسّسات العمومية، إلى جانب توقيع عرائض الكترونية تدعو إلى رفض استخدام اللغة الفرنسية في المؤسّسات الرسمية، وإرساء العدالة اللغوية في المغرب، معتبرةً استمرار "لغة موليير" ضربًا للهوية المغربية وترسيخًا للتبعية لبلد سبق أن استعمر المغرب.
ووفقًا لدراسة أجراها المجلس الثقافي البريطاني عام 2021، شملت 1200 شاب مغربي، فإنّ أكثر من ثلثي هؤلاء الشباب مقتنعون بأنّ اللغة الإنجليزية ستنجح في تجاوز الفرنسية كلغة أجنبية أولى في المغرب، في غضون السنوات الخمس المقبلة. وأفادت الدراسة بأنّ 85% من عيّنة الدراسة تتوقع أن يزيد عدد المغاربة الذين يستخدمون اللغة الإنجليزية خلال العقد المقبل، بينما يعتبر 65% اللغة الإنجليزية لغة مهمة للغاية، بينما دافع 47% فقط منهم عن أهمية اللغة الفرنسية.
خلفية سياسية
إنّ انفتاح المغرب على "لغة شكسبير" وإيلاءها أهمية كبرى مقارنة مع "لغة موليير"، فسّره البعض بأنّه جواب غير مباشر على ما يقوم بعض الساسة الفرنسيين اتجاه المغرب، لا سيما في ظل جمود العلاقات بين البلدين.
وفي هذا السياق، يؤكد الناجي أنّ الاهتمام الذي أصبح يوليه المغرب للغة الإنجليزية على حساب اللغة الفرنسية "له علاقة بالأزمة التي تعرفها العلاقات المغربية الفرنسية"، موضحًا أنّ "هذا التوجّه كان مخطّطًا له بالفعل لكن هذه الأزمة سرّعت تنفيذه".
كذلك يتوقّع رئيس المعهد المغربي لتحليل السياسات أن يؤدي الانفتاح على الإنجليزية بشكل أوسع، إلى زيادة حدّة توتر العلاقات بين المغرب وفرنسا، لا سيما وأنّ المغرب يعد حليفًا لفرنسا وللفرنكفونية، مشيرًا في الوقت عينه إلى أنّ "فرنسا بدأت تفقد عددًا من مناطق النفوذ بالقارة الأفريقية، وهو التحول الذي يعيه المغرب جيدًا".
الملف إذًا ظاهرُه تحوّل في سياسة الدولة المغربية بخصوص التعامل مع تعليم اللغات الأجنبية، لكن باطنه يتجاوز هذا الشعار أو المشروع، لأنّه لا يمكن فصله عن تحوّلات استراتيجية تهمّ تعامل بعض القوى العالمية مع دول المنطقة العربية، أقلّه التحوّلات في السياسات الفرنسية اتجاه دول المنطقة المغاربية، وتراجع نفوذها في دول الساحل الأفريقي، وانفتاح المغرب على قوى عالمية أكبر في وزنها الاستراتيجي من الثقل الفرنسي.
(خاص "عروبة 22")