وجهات نظر

حرب الشّوارع في غزّة

تبيّن من فشل عمليات الجيش الإسرائيلي العسكرية على الأرض في الحرب على غزّة وجود استراتيجية دفاعية هجومية في سياق ما يُعرف بحرب الشوارع ، تختلف من حيث النّوع والتكتيك عمّا عُرف من مثيلاتها في تجارب سابقة، لأنّ أساس فعل الظّهور والاختفاء فيها، أو منطق الكرّ والفرّ الذّي يَسِمُها تحكمه لعبة الأنفاق بما تنطوي عليه من أسرار دوّخت العقل العسكري الإسرائيلي وأربكت حساباته، خاصة بعد الاجتياح الأخير.

حرب الشّوارع في غزّة

تحمل حرب شوارع غزّة درسًا مُجَدِّدا لحرب المدن التي يديرها مقاتلو "حماس" بكفاءة عالية أدهشت أمريكا قبل إسرائيل بعد توقّعها تدمير "حماس" وإنهاء الحرب في أسبوعين.

يتمثّل هذا الدّرس المُجدّد، أوّلًا، في الانتصار الأسطوري على التكنولوجيا العسكرية المتطوّرة التّي هلّلت لها إسرائيل منذ بنائها للجدار الفولاذي المزوّد بالتكنولوجيا الفائقة. فتمّ التّرويج لاستحالة عبوره أو اقتحامه عن طريق حفر الأنفاق ودرئه المطلق لأخطار هجوم المقاومة المباغت، حسب إعلان وزير دفاعها السّابق. أخذ هذا الجدار صيتًا عالميًا حتّى بات يُطلق عليه "جدار العصر القاهر". لكن حدث اختراقه بسهولة تامة وانكسرت أسطورته المزعومة على يد مقاتلي "حماس". لم يكن اختراق هذا الجدار في الواقع إلاّ كناية عن اختراق سياسي ونفسي لعتبة الخوف التّاريخي المركّب من "غول إسرائيل الذّي لا يقهر".

حرب من نوع آخر تسعى إلى استبدال المستحيل بالممكن

لقد انهزمت التكنولوجيا أمام إرادة الحرية وارتسم في الأفق ممكن الوجود بالفعل المرتبط بالكرامة والخلاص من ثقل التردّي في وحل الاستسلام والانكماش. أسّست هذه الكناية لحرب شوارع مختلفة عن سابقاتها، ورسّخت في الأذهان أنّ إرادة الحرية أقوى من إرادة التكنولوجيا وتجبّرها. ولأنّها حرب من نوع آخر، فهي تسعى إلى استبدال المستحيل بالممكن. تجعل من خلفية الأنفاق وفقًا لمتاحها العقدي أسلوبًا عصريًا للفعل والمقاومة؛ يجعل مما هو تحت الأرض جدلًا للتحدّي يسخر من جوّ علوي جبان أسقط فوقها خمسة وعشرين ألف طن من المتفجرات.

ليس لهذا الجو الموبوء، بالمسيّرات والطاّئرات المقابل لصمود الأرض والأنفاق، مثيل في التاريخ ولو استشهدنا بمثال فيتنام العصيّ على النّسيان في ستينات القرن الماضي. صحيح أنّ قوات الفيتكونغ الفيتنامية صمدت أكثر من عشرين سنة بفضل أنفاق كوتشي الممتدة على أكثر من مائتين وخمسين كيلومترًا تحت الأرض، وانتصرت أخيرًا على أمريكا؛ ولكن السياقين يختلفان، لأن الذي يحاصر حرب الشوارع في غزّة تشويهًا إعلاميًا واسعًا يُؤطّره تحالف غربي بقيادة أمريكية مباشرة وداعمة ماليًا ولوجستيكيًا، فضلًا عن مرافقة التكنولوجيا المتطوّرة للتجسّس وإدارة المعارك، وهي حكر في يد المركزية الغربية وإسرائيل، على خلاف الحرب في الفيتنام التي لم تكن تكنولوجية بقدر ما كانت مباشرة تعتمد على المواجهة ووسائل الاستخبار التقليدية.

 أصبح لمفهوم القوة معنى آخر أساسه التحام إرادة العقيدة بإرادة الحريّة

بالرّغم من أنّ ميزان القوى التكنولوجي واللوجستيكي والمالي لصالح إسرائيل، فلقد تمكّنت "حماس"، ابتداءً من تدميرها للجدار الحديدي، أن تبدع نموذجًا جديدًا، في هذا القرن، لحرب الشوارع هزمت فيه التّكنولوجيا وسقط من خلاله الإعلام المتحيّز القائم على الكذب وتزوير الحقائق. بذلك، أصبح لمفهوم القوة معنى آخر أساسه التحام إرادة العقيدة بإرادة الحريّة والاستناد إلى منظومة أخلاقية أساسها القطيعة مع مفهوم المصلحة بالمعنى الذّي أنشأته الفلسفة الغربية التّقليدية واعتمدته الدول المعاصرة والسياسيون، حتّى بات هذا المفهوم ديانة مشتركة جامعة للأنظمة العالم، وعلى رأسها الليبيرالية المتوحّشة.

إذن، يظلّ مفهوم القوّة كما أبدعته "حماس"، في مقابل مفهوم القوّة كما تمارسه أمريكا وإسرائيل، متاحًا تاريخيًا جديدًا يقدّم للمجتمعات السّاعية إلى الحرية أسلوبًا مختلفًا للخلاص من جلّاديها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن