مراجعات

"الجريمة المقدّسة".. أصول الإبادة الإسرائيلية ضد فلسطينيي غزّة

هناك كُتُب يُعاد اكتشافها في لحظات فارقة، تكتسب كلماتها معنى أكثر عمقًا مع الأحداث المستجدّة، ينطبق هذا على كتاب "الجريمة المقدّسة.. الإبادة الجماعية من أيديولوجيا الكتاب العبري إلى المشروع الصهيوني"، للمؤلف عصام سخنيني.

الكتاب الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات عام 2012، يكاد يكون حاضرًا معنا بكل صفحاته في الأحداث الدموية الراهنة، إذ يغوص عميقًا في الأيديولوجية الصهيونية القائمة على الاستئصال والإبادة، لذا تشكّل قراءة الكتاب الآن أهمية استثنائية على وقع حرب الإبادة والتطهير العرقي التي يشنها جيش الاحتلال ضد فلسطينيي غزّة.

يحلّل المؤرّخ الفلسطيني في كتابه، الأُسّس التي قام عليها المشروع الصهيوني، بالرجوع إلى الممارسة الكولونيالية الاستيطانية الأوروبية، وما استعاره الصهاينة من "العهد القديم"، ليتشكّل منهما المضمون الأيديولوجي للمشروع الصهيوني، الذي يتبنى بشكل صريح خطاب الإبادة والتطهير العرقي ضد الفلسطينيين.

ويرصد سخنيني أنّ مصطلح الإبادة الجماعية Genocide ظهر لوصف الممارسات النازية في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك استهداف اليهود، الذين استحوذوا على الكم الأكبر من الدراسات الغربية المعنية بالإبادة الجماعية، لتضخيم ما تعرّضوا له على يد النازي.

في حين تكمن المفارقة أنّ الحركة الصهيونية هي صاحبة الحضور الأبرز في ممارسة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين خلال النصف الثاني من القرن العشرين والربع الأول من القرن الواحد والعشرين، ورغم ذلك فنادرًا ما تُخصّص دراسات مستقلة تتعامل مع ظاهرة الإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين.

في ضوء هذا الواقع، نشهد اليوم أحد تجلياته بالتغاضي الأمريكي الأوروبي عن جرائم الحرب والإبادة التي يشنّها جيش الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزّة حاليًا، تكتسب أطروحة سخنيني حضورها المتجدّد، فهو بعد أن يحلّل مصطلحات "إبادة الجنس" و"التطهير العرقي" و"الترحيل" و"إبادة الذاكرة"، يصل إلى خلاصة بأنّ الكيان الصهيوني لا يترك أيًا من هذه الممارسات البشعة ضد الشعب الفلسطيني.

الصهيونية والكولونيالية

ويخلص صاحب "الجريمة المقدّسة" إلى أنّ الجرائم التي يرتكبها جيش الاحتلال تعود في الأساس إلى طبيعة تأسيس المشروع الصهيوني، الذي ورث أدوات الكولونيالية الاستيطانية، فبحكم نشأة الصهيونية في مناخ استعماري أوروبي في نهايات القرن التاسع عشر، ورثت مفاهيم الإبادة للسكان الأصليين.

لذا لم يكن غريبًا أن يقارن بن غوريون، أول رئيس وزراء لإسرائيل، بين إبادة الأوروبيين للسكان الأصليين في الأمريكتين، وبين جهود المستوطنين اليهود في فلسطين المحتلة. ومن أجل حل معضلة التفوّق الديموغرافي للعرب على اليهود، وضعت مخططات السيطرة على الأرض بقوة السلاح والترهيب وارتكاب المذابح، وتمهيد الطريق لهجرات بشرية تسمح ببناء مستوطنات للمحتل الجديد، مع تقديم الصهيونية نفسها باعتبارها قاعدة متقدّمة للاستعمار الغربي.

لكن الحركة الصهيونية لا تقف عند الاقتباس من الحركة الكولونيالية الاستيطانية، لأن لها خصوصيّتها المستمدة من التوظيف الأيديولوجي للكتاب العبري "التناخ"، إذ جعل المشروع الصهيوني من هذه النصوص بغض النظر عن إيمانه بصحتها من عدمه "مكوّنه الداخلي الوحيد الذي يتحكّم في كل أطروحاته، والمرجعية التي يستند إليها بجوهره النظري وتجلياته العلمية، والأساس الأيديولوجي الذي يستوحي منه بواعثه ومضامينه وأهدافه"، بحسب سخنيني.

إبادة الأغيار والنصوص الدينية

ويلفت إلى أنّ هناك وجهتي نظر في التعاطي مع الكتاب العبري، الأولى دينية ترى في قصصه وحكاياته نصوصًا سماوية موحى بها من يهوه، ما يجعل حكاياته الفظيعة عن الإبادة نصوصًا مقدّسة، وبذلك فهي تشكّل مرجعية أيديولوجية دينية لهم في التعامل مع الأغيار، وفي الحالة المعاصرة مع الفلسطينيين.

بينما يقف العلمانيون الصهيونيون على ضفاف وجهة النظر الأخرى، التي ترى في الكتاب العبري سجلًا تاريخيًا يسرد أخبار الأسلاف وأفعالهم ولا علاقة له بالسماء، لكنهم مع ذلك يسبغون عليه صفة القداسة الدنيوية، باعتبارها جزءًا من منظومتهم الثقافية، وبالتالي تصبح النماذج التاريخية لإبادة الأغيار، ممكنة التكرار في الحاضر، ليصل عصام سخنيني بتحليله إلى نقطة جوهرية بقوله: "المشروع الصهيوني إذًا، بغض النظر عما كان علمانيًا أم متدينًا، هو مشروع إبادة للآخر، ولا يمكن أن يتحقق إلا على أنقاض هذا الآخر".

ويحلّل عصام سخنيني النصوص الدينية القديمة عند اليهود، والتي تظهر يهوه في صورة الإله المنغمس في دماء الأعداء، وكأنه رب الإبادة، إذ يأمر بني إسرائيل بإبادة البشر الأغيار، ويمارس اليهود في نصوص الكتاب عمليات إبادة جماعية ضد خصومهم من العماليق، لذا ليس غريبًا أن يتم منح هذه اللقب إلى أعداء إسرائيل من المعاصرين، أمثال مفتي القدس وجمال عبد الناصر، بل أنّ ياسر عرفات يحصل على لقب "وكيل عماليق"، وغني عن البيان أنّ نظرة الكثير من الإسرائيليين المعاصرين ترى بضرورة إبادة العماليق الجدد أي العرب، بما في ذلك الأطفال والنساء.

ويؤكد المؤرّخ الفلسطيني البارز أنّ نكبة 1948، كانت نموذجًا لفعل إبادة الجنس، إذ اعتمدت عصابات الصهيونية على آليات طرد السكان العرب من قراهم، عبر ترويعهم بارتكاب مذابح جماعية للعديد من الأهالي العزّل، بغرض إجبارهم وغيرهم على المغادرة بلا عودة، ثم العمل على تدمير الكثير من القرى، حتى يتم محو الذاكرة الفلسطينية ويعزل صاحب الأرض عن تاريخه بمحو الأسماء والمعالم الفلسطينية واستبدالها بأخرى يهودية، مع منع المطرودين من العودة بالقوة المسلّحة.

بن غوريون وابتلاع غزّة

اللافت هنا، أنّ سخنيني يخصّص فصلًا لمناقشة المشروع الإسرائيلي لابتلاع غزّة في أثناء حرب 1956، إذ رغب قادة الكيان الصهيوني منذ اللحظة الأولى لتأسيسه في ابتلاع غزّة، فطرح بن غوريون في العام 1955، مشروعًا لضم غزّة للكيان، مع فتح ممرين أمام عرب غزّة للخروج من القطاع في اتجاه مصر والأردن، فما أشبه الليلة بالبارحة!

وتم بالفعل احتلال القطاع أثناء العدوان الثلاثي على مصر، وأعلنت جولدا مائير، وزيرة الخارجية وقتذاك، أنّ القطاع جزء مكمّل لإسرائيل، وبدأت عجلة المذابح الجماعية لإبادة الشعب الفلسطيني في غزّة، وإجبار المتبقي منه على المغادرة، وتظل مجزرة خان يونس علامة على الوحشية الإسرائيلية في تلك الفترة، لكن فشل العدوان الثلاثي أجبر إسرائيل على الانسحاب من القطاع.

ولا تقتصر آليات الإبادة الإسرائيلية على الفعل المادي، بل تعمل على إبادة الذاكرة الجمعية الفلسطينية، بحسب سخنيني، الذي يرصد سلسلة من الفضائح العلمية الدولية التي وقع فيها من ينتمي إلى الحركة الصهيونية في سعيهم للتنقيب عن أي آثار يهودية في فلسطين، ومحاولة ربطها بما جاء من قصص التوراة، لكن بلا جدوى، فرغم عمليات التنقيب المحمومة على مدار سبعين سنة، لم يتم العثور على أي أدلة أثرية عن الوجود اليهودي المزعوم في فلسطين، وهنا لجأ الصهاينة إلى فبركة التاريخ من ناحية، وسرقة التراث الفلسطيني العربي ونسبته إلى إسرائيل ظلمًا وعدوانًا.

أمام حقائق التاريخ الصلبة اعترف زئيف هيرتزوغ، الأستاذ في دائرة علم الآثار ودراسات الشرق الأدنى القديم في جامعة تل أبيب، بالحقيقة قائلًا: "بعد سبعين سنة من عمليات التنقيب المكثّفة في أرض إسرائيل، توصّل علماء الآثار إلى ما يلي: إنّ أعمال الآباء جميعًا أسطورية، ونحن لم نقم في مصر، ولم نخرج منها، ولم نفتح مدن هذه البلاد، وليس هناك ذكر لإمبراطورية داوود وسليمان… غير أنّ إسرائيل شعب عنيد ولا يريد أن يسمع عنها شيئًا".

إنّ قراءة كتاب "الجريمة المقدسة" لعصام سخنيني، الذي رحل عن عالمنا في 2019، في اللحظة الراهنة الدامية، مهمة جدًا لفهم هذه العقلية الوحشية التي ترتكب كل جرائم قاموس الإبادة والتطهير العرقي ضد أهالي القطاع، وكيف تبرّر لنفسها ما ترتكبه من جرائم ضد الإنسانية، والأهم أن يوقظ العرب على الحقيقة المرّة، وهي أنّ العدو الذي يقف أمامهم لا يريد السلام ولا يعرف إلا الرغبة المحمومة في القتل، فقد تم تربيته منذ البداية على تحقيق أمانه عبر إبادة أعدائه!

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن