دخلت الحرب على غزة يومها السادس والسبعين، وما يزال الجيش الإسرائيلي بعيدا عن تحقيق الأهداف التي أقرها مجلس الحرب، وأبرزها، القضاء على «حماس»، وتحرير الأسرى. ثمة أشياء مسكوت عنها، لا تتطرق إليها معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية، التي اصطفت اصطفافا أعمى، خلف المنظومة العسكرية، والمتحدث باسمها، دانييل هجارى، باستثناء بعض الصحف والمواقع، التي نظرت إلى مجريات الحرب والخسائر التي تقع في صفوف المحاربين، نظرة أخرى. من الأمور المسكوت عنها: نقاط الضعف لدى الجيش الإسرائيلي، والتناقضات في أهداف الحرب، والتحديات التي تواجهه، والتصور المتعلق بمستقبل قطاع غزة في اليوم التالي للحرب.
فيما يتعلق بمسألة نقاط الضعف في الجيش الإسرائيلي، يشير، عامير ربابورت، الباحث بمركز بيجن ــ السادات للدراسات الاستراتيجية إلى أن الجيش الإسرائيلي «جيش صغير مقارنة بالمهام التي يواجهها، وإلى أن حجم القوات انخفض إلى ما دون الخط الأحمر، وإلى أن عدد الدبابات انخفض إلى ما دون المعدل الأدنى للعدد الذي يجب على الجيش الاحتفاظ به، ومن ثم فإن الجيش يخرج في هذه الأيام دبابات قديمة من طراز «ميركافا» من المخازن بجنوب إسرائيل، كانت على وشك أن تباع لدولة أوروبية»، لكن تقرر العدول عن بيعها للسبب المذكور أعلاه. ومن مظاهر الفشل المسكوت عنه، أن الجيش الإسرائيلي، لديه نقص كبير في الوسائل القتالية، ولذا يسعى، بحسب ربابورت، أيضا، إلى «شراء وسائل قتالية من مختلف أنحاء العالم على نطاق واسع، وأن الصناعات العسكرية الإسرائيلية تعمل بلا توقف»، من أجل تلبية احتياجات الجيش. ويؤكد ربابورت أن الجيش «يجد صعوبة في خوض حرب بقوة كبيرة في كل أنحاء قطاع غزة في موازاة الحرب في مواجهة حزب الله في الشمال، والقتال في الضفة الغربية، فضلا عن «معالجة» التهديد الذي يمثله الحوثيون في اليمن للسفن الإسرائيلية». ومن الأشياء المسكوت عنها، مسألة الخسائر في الأرواح في صفوف الجيش الإسرائيلي، إذ لفتت صحيفة «هآرتس» (في عدد يوم السبت 9 ديسمبر) الأنظار إلى أن هناك فجوة كبيرة في أعداد الجرحى الذين يعلن الجيش عنهم وبيانات المستشفيات التى تستقبلهم للعلاج، كما نشرت صحيفة «يديعوت أحرونوت» أرقاما للجرحى، تتجاوز الأرقام التي أعلن عنها الجيش بكثير.
فيما يتعلق بالتناقضات، التي قد تحول دون استكمال الأهداف التي وضعتها إسرائيل للحرب فإن التناقض الأبرز يتعلق بمسألة الأسرى، إذ إن استمرار القتال يعرض حياتهم للخطر، وقد تجلى ذلك في الفشل الذي صادف عملية تحرير بعضهم أخيرا، كما أن الضغط المهول الذي تمارسه أسر الأسرى، من شأنه أن يؤثر على سير العمليات، وإذا حدث وجرى التفاوض بشأن صفقة تبادل جديدة، فمن المرجح أن «حماس» لن تكتفى في المرة القادمة بمجرد هدنة، إذ سيكون هدفها الرئيس استخدام ورقة الأسرى من أجل التوصل إلى وقف مستدام لإطلاق النار. وعندئذ سيتضح التناقض بين الأهداف المتمثلة في تقويض «حماس» وتحرير الأسرى. وثمة تناقض آخر في أهداف الحرب، يتمثل في الرغبة الإسرائيلية، غير المعلنة، في السيطرة على محور «فيلادلفي» (محور صلاح الدين)، الذى يفصل بين أراضي غزة ومصر، لفترة طويلة من الوقت لضمان نزع سلاح القطاع، إلا أن هذه الرغبة قد تدخل إسرائيل في مشكلة مع مصر، التي تعارض بشدة، الضغط، عسكريا، على جنوب القطاع، ودفع الغزاويين دفعا في اتجاه الحدود المصرية.
فيما يتعلق بالتحديات التي يواجهها الجيش الإسرائيلي في حربه ضد غزة، فإنه يمكن إجمالها في أربعة تحديات رئيسة:
1ــ العدد الكبير في الخسائر، والعدد الكبير من القتلى والجرحى خلال الحرب، رغم أن رئيس الحكومة نتنياهو قلل من حجمها بقوله، إنها تماثل الخسائر التي نجمت عن العمليات الفلسطينية ضد إسرائيل بعد توقيع اتفاقيات أوسلو (1993).
2ــ التحدي الذي تمثله الأنفاق، خاصة، وأن هناك مؤشرات على وجود كثير من القيادات الفلسطينية التي تتعقبها إسرائيل بداخلها، ومقاتلين فلسطينيين، يشنون هجمات قاتلة على القوات على الأرض في شمال وجنوب القطاع، وربما بعض الأسرى المحتجزين بها. لقد فشلت إسرائيل، حتى الآن، في فك شفرة الأنفاق، رغم ما بذلته من جهود استخباراتية جبارة، وما يزال الأمر يحتاج مزيدا من الجهد، وقد يستغرق الأمر وقتا أطول، وقد لا تستطيع إسرائيل معالجة هذه المعضلة، أصلا.
3ــ يتمثل التحدي الثالث في كيفية كسب المعركة الإعلامية أمام الرأي العام العالمي إزاء النسبة غير المسبوقة بين عدد القتلى من المدنيين الفلسطينيين، خاصة بين النساء والأطفال، وعدد من يقتلون من أفراد المقاومة الفلسطينية. وهي نسبة 1:3، في نظر بعض التقديرات، بمعنى مقتل ثلاثة من المدنيين الفلسطينيين غير المنخرطين في القتال جراء القصف في مقابل كل مقاتل من المقاومة. وقد تزيد هذه النسبة في جنوب القطاع، وتصبح أسوأ بسبب وجود 2 مليون مواطن ومواطنة على الأرض، منهم مليون من الأشخاص النازحين من شمال القطاع تحت الضغط العسكري الرهيب.
4ــ أما التحدي الرابع، فيتمثل في الضغط الأمريكي على إسرائيل، وهو ضغط حقيقي، يأخذ في الحسبان عدة عوامل من بينها، الرغبة في عدم توسيع نطاق الحرب إقليميا، ومن ثم توريط أمريكا، وقرب انتخابات الرئاسة الأمريكية (بعد نحو عام تقريبا)، حتى لا يؤثر استمرار الحرب على حظوظ بايدن في الفوز، والخشية من أن يحدث تحول في توجهات الرأى العام العالمي، والرغبة في عدم إحراج أصدقاء أمريكا في المنطقة أمام شعوبهم. وقد بعث وزير الخارجية الأمريكية، أنتوني بلينكن، ووزير الدفاع، لويد أوستن، بإشارات واضحة جدا إلى إسرائيل مفادها أن الوقت ليس مفتوحا أمام إسرائيل، وجاءت زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، إسرائيل، الأسبوع الماضي، للتأكيد على هذه النقطة.
أما فيما يتعلق بالرؤية المتعلقة بقطاع غزة بعد انتهاء الحرب، فقد شكل مجلس الأمن القومي الإسرائيلي طاقما يعكف على بلورة البدائل للوضع في غزة بعد الحرب، حيث يقوم رئيس المجلس، تساحي هنجبي، بعرضها على المجلس الوزاري الأمني ــ السياسي المصغر، لكن لا يوجد، حتى اللحظة، سيناريو واضح لمستقبل الوضع في غزة في اليوم التالي للحرب، كما أن هناك تعارضا واضحا بين التصور الأمريكي والتصور الإسرائيلي للوضع في غزة بعد الحرب. يعارض الجانب الأمريكي أي وجود عسكري إسرائيلي في القطاع بعد الحرب، وينادون بدور للسلطة الفلسطينية في رام الله في إدارة شؤون القطاع بعدها، فيما يعارض رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، إعطاء أي دور للسلطة الوطنية الفلسطينية في غزة بعد الحرب، مبررا ذلك بأنها سلطة داعمة لـ«الإرهاب» و«محرضة» ضد إسرائيل، و«فاشلة» في إدارة الوضع في رام الله، لكنه يخشى، في الواقع، من الصدام مع العناصر المتطرفة داخل ائتلافه الحاكم، وعلى رأسها وزير المالية، بتسلئيل سموتريتش، زعيم حزب «الصهيونية الدينية»، ووزير الأمن القومي، إيتمار بن جفير، زعيم حزب «عوتسما يهوديت» ــ قوة يهودية ــ اللذان يطالبان، أصلا، بتفكيك السلطة الفلسطينية في رام الله، وضم الضفة الغربية.
("الشروق") المصرية