مدونات

المسيحيون الشرقيون.. والهوية العربية

كيرلس عبد الملاك - مصر

المشاركة
المسيحيون الشرقيون.. والهوية العربية

لا شك في أنّ الجزيرة العربية كانت حافلة بالمسيحيين قبل ظهور الإسلام فيها، وقد استمر وجودهم بعد ظهور الإسلام أيضًا نظرًا لأنّ المجتمع العربي لم يكن أحادي الدين على مر التاريخ، حيث تواجد به اليهود والمسيحيون والمسلمون بالإضافة إلى الوثنيين في فترات من التاريخ، وهذا يرجع إلى أنّ الأديان، عدا اليهودية، برغم خضوعها لعوامل الميراث إلا أنها تبقى من الاختيارات الشخصية للبشر بينما الهوية العربية تدخل ضمن الهويات الموروثة التي لا يمكن تغييرها لأنها تتضمن التاريخ العائلي الذي يلتصق بالإنسان طوال حياته على الأرض.

في فترات من التاريخ توحّد الإسلام مع الهوية العربية وأدى ذلك إلى تضاؤل عدد غير المسلمين في الجزيرة العربية مما أنتج نوعًا من التطرّف الديني أضرّ بتلك الهوية فجعلها إقصائية منعزلة، حتى أنّ الكثيرين لا يزالون يعتبرون لغاية الآن أنّ العربي هو مسلم بالضرورة، وهو ما تاجرت به التيارات الإسلامية المتطرّفة حتى أصبحت المجتمعات ذات السمة العربية مشحونة بالتطرّف الديني القادر على أن يصيب أي مجتمع بالفشل وعدم الاستقرار.

ويبرز تساؤل هام يتعلّق بموقع المسيحيين الشرقيين، الذين لا ينتمون للجزيرة العربية، من الهوية العربية، فيُثار الكثير من الجدل من وقت لآخر عن مدى اقتراب هؤلاء المسيحيين، مثل الأقباط والسريان والأرمن من الهوية العربية. وعادةً ما تعلو أصوات تنفي عنهم السمة العربية إطلاقًا، بينما تعلو أصوات مقابلة تخلط بينهم وبين التراث المسيحي الذي له جذوره التاريخية الواضحة في الجزيرة العربية.

لا يمكن أن نتجاهل تأثير المسيحيين الشرقيين في الهوية العربية، كما لا يمكن أن نتجاهل التأثير اللغوي العربي في هؤلاء المسيحيين. لكن هل هذا التأثير كافٍ لاعتبارهم من العرب؟ يختلف الأمر حسب تعريف مصطلح "العرب"، فإذا اعتبرنا أنّ العرب هم المنتمون دمويًا للجزيرة العربية فبالتأكيد لا نستطيع أن نعتبر هؤلاء المسيحيين من العرب، لكن إذا قصدنا بالهوية العربية سكان الدول التي تعتمد اللغة العربية لغة رسمية لها فهنا سوف يختلف الأمر. مع التأكيد أنه ليس بالضرورة أن يكون سكان الدول العربية من العرب حتى يشتركوا في بنائها وتطوّرها، وعلى سبيل المثال تمنح الدول الأوروبية جنسياتها للكثيرين من الذين لا ينتمون لها بحسب الأصل الدموي، وهؤلاء ساهموا ويساهمون بشكل جلي في نهضتها.

أتذكّر هنا أنّ من الأوصاف التي أُطلقت على البابا شنودة الثالث، البابا رقم 117 في تعداد بطاركة الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وصف "بابا العرب"، ولم يكن البابا الراحل يعترض على هذا الوصف، لإدراكه أنّ المجتمعات المسمّاة عربية في العصر الحديث وإن كانت لا تنتمي للجزيرة العربية دمويًا لكنها تتحدث لغة واحدة هي اللغة العربية، كما أنها تشترك في مصير مشترك خلقه توحّد جغرافي وتاريخي ولغوي.

في تقديري، هناك احتياج ملح للحديث عن الهوية العربية بنبرة غير دينية، حتى لا تصاب الهوية العربية بالإقصاء والانعزال، لأنّ هذا الإقصاء وذاك الانعزال من أكثر مسبّبات فشل المجتمعات المدنية وضعفها، خاصة في ظل التعدّد الثقافي والديني الذي تتميّز به الدول المتحدّثة باللغة العربية. مع أهمية أن تكون الدول العربية حاضنة لكل الهويات الدينية والمجتمعية الأصيلة فيها دون أن تفرض عليها قالبًا ثقافيًا معيّنًا، حتى تستطيع مجابهة تطرّف العولمة الغربية الذي يحاول قولبة تلك الهويات بقوالب غربية لا تتناسب معه. الأمر يحتاج إلى الكثير من الاتزان، بحيث تكون الدول العربية حاضنة للهويات الأصيلة لمجتمعاتها بمختلف انتماءاتها الدينية لمجابهة التطرّف الديني الإقصائي وفي الوقت نفسه تغلق الأبواب أمام تغريب الهويات الشرقية حفاظًا على التراث البشري للشرق والخصوصية الشرقية التي لها ثقلها التاريخي المتفرّد.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن