وجهات نظر

"مكاشفة الذات"... حتى لا تكون ردّة عربية!

في الساحة الغنائية اللبنانية، انتقل الرأي العام المحلي ومعه الرأي العام العربي، من مرحلة فيروز إلى حقبة الثنائي ماجدة الرومي وجوليا بطرس، نحو ما هو أقلّ بكثير اليوم في مجال الإبداع الذي يهمّ الحقل الفني نفسه. الأمر نفسه في الساحة المصرية، ويكفي استحضار أداء الثلاثي أم كلثوم وعبد الوهاب وفريد الأطرش مقارنة مع السّائد اليوم.

أمّا في الساحة المغربية، فإنّ أغنية "مرسول الحبّ" للمطرب عبد الوهاب الدكالي، وتعتبر من أشهر أغانيه لدى الجمهور المغاربي، وليس الجمهور المغربي وحسب، أصبحت بين ليلة وضحاها خلال السنوات الأخيرة، مختزلة في  "فيديو كليب" لمغنّية شابة، تتغنّى بها في المسبح ولباس السباحة.

هذه ثلاثة أمثلة ضمن لائحة مستحيل حصرها من الأمثلة، تدور في فلك فرضية هذه المقالة، ومفادها أنّ المنطقة العربية تمرّ من تحولات مجتمعية وقيمية وسلوكية حقيقية، تقتضي أن ننتبه إليها، ونخصّ المواكبة البحثية التي من المفترض أن تصدر عن الأقلام الفكرية في حقول الاجتماع والفلسفة والدين ضمن حقول أخرى.

معضلة حقيقية وربّما بنيوية نعاني منها جميعًا في المنطقة العربية

ليس هذا وحسب، فالأمثلة أعلاه تهمّ أحد مجالات الحقل الفني، الموزّع بدوره على عدة حقول، ويكفي، من باب الاستئناس أيضًا، مقارنة أداء الأعمال السينمائية أو الأعمال الدرامية العربية بين الأمس واليوم: أين هي الأسماء الإبداعية العربية التي يمكن أن تعوّض أسامة أنور عكاشة في السيناريو وأحمد زكي في التمثيل وعاطف الطيب في الإخراج؟ ضمن أمثلة أخرى يصعب حصرها في مصر فالأحرى حصرها في باقي دول المنطقة العربية.

يزداد المشهد تعقيدًا عندما ننتقل إلى مجالات إبداعية أخرى، من قبيل المجال الفكري والبحثي بشكل عام، لذلك عندما تحدثنا في المقال السابق عن "اقتصاد المعرفة"، باعتباره أحد أحلام شعوب المنطقة العربية، فالأمر لا علاقة له بالترف الفكري، وإنّما بإشارة أو تنبيه إلى معضلة حقيقية وربّما بنيوية نعاني منها جميعًا في المنطقة العربية، وإن كانت هناك بوادر صحوة فكرية أو بحثية مع بعض النماذج، لكنها لا زالت في مرحلة جنينية أو لا زالت في البدايات.

في المجال البحثي والإبداعي نفسه، هنا في الساحة المغربية، منذ عقدين تقريبًا، وليس منذ قرن، كانت مؤسّسة اتحاد كتّاب المغرب، تصنع الحدث الفكري والإبداعي، حتى إنّ أحد مؤسّسيها، هو الراحل محمد عزيز الحبابي، يُلقّب بأب المفكرين المغاربة، لأنّ أغلب المفكرين في الساحة تتلمذوا على يديه.

هذه المؤسّسة التي كانت رائدة محلياً في الندوات والمحاضرات، وفي ظل غياب التمويل والمساعدات، بل إنّ مقرّها القديم، كان عبارة عن شقة متواضعة جدًا، على بُعد أمتار من المقر السابق للسفارة الفلسطينية، انتقلت اليوم إلى مقر فاخر، لكنها عمليًا انتهت تقريبًا إلى زوال، لأنّه منذ عقد تقريبًا، أصبحت أخبارها تدور في فلك صراعات إدارية بين الأعضاء، مقابل غياب كلّي يهمّ تنظيم المؤتمرات والندوات كما كان الحال من قبل، وقس على ذلك السائد في العديد من دول المنطقة.

أين هي المجلات الفكرية الوازنة اليوم في المنطقة العربية؟

مَن بوسعه اليوم، أن يقارن بين رموز الإنتاج الفكري في سوريا والعراق، منذ عقدين على سبيل المثال، مقارنةً مع السائد اليوم؟ أين هي المجلات الفكرية الوازنة اليوم في المنطقة العربية، على افتراض أنّه ثمّة عدة مجلات فكرية وازنة؟

الراحل مطاع صفدي، كان لوحده مؤسّسة فكرية، فإلى جانب الإنتاج الفكري، كان يسهر على نشر فصلية "الفكر العربي المعاصر"، وفصلية "العرب والفكر العالمي"، ومعلوم الأدوار البحثية التي قامت بها هذه المنابر بالنسبة للقرّاء العرب، خاصّة في سياق الانفتاح على الفكر الغربي، الأوروبي والأمريكي على الخصوص، وقد لُقّب بـ"داعية التنوير العربي"، وبمجرد رحيله، أُعلِن عن إغلاق هذه المنابر، والأمر نفسه مع نماذج أخرى في الساحة.

الإشارات أعلاه لا علاقة لها قطّ بخطاب "تقليب المواجع"، (عنوان أحد أعمال خيري سلبي)، بقدر ما تروم القليل من مكاشفة الذات، وتنبيه من يهمّم أمر مستقبل شعوب وأنظمة المنطقة العربية برمّتها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن