بصمات

درس غزّة التاريخي من أجل روح الشعوب والعالمية الإنسانية

انقضى العام 2023 على واحدة من أعنف الحروب التي غزت فيها اسرائيل المدنيين في غزّة، وفي أعنف حملات القصف في التاريخ، ونتيجة ذلك تهجير ما يقرب من مليوني شخص من منازلهم، وقتل أكثر من 20 ألف شخص، أكثر من نصفهم من الأطفال والنساء، إلى تدمير نصف مباني المدينة وقطع إمدادات المياه والكهرباء والغذاء.

درس غزّة التاريخي من أجل روح الشعوب والعالمية الإنسانية

حجم الاحتلال الإسرائيلي يُعتبر أعنف عقاب جماعي يُشن ضد المدنيين بعد الفشل في التصدي لهجوم "حماس" في 7 أكتوبر/تشرين الأول. ما حملته نهاية العام 2023 ، يثير مشاكل أخلاقية مع فقدان قلوب وعقول العالم، ويتذكر العالم القصف العشوائي للمدنيين في الحرب العالمية في هامبورغ (40 ألف قتيل)، وريسدن (25 ألف قتيل). غزّة تضاف الى تلك القائمة، لكن كل قصف إسرائيل (كما في الحرب العالمية) لم يُضعف معنويات المدنيين.

يشعر الجميع نهاية العام بالنتائج العميقة للتخلي عن قضية جوهرية تسللّت إلى كل شيء، مزعزعة كل الأطر الدولاتية. العالم أمام شيء جديد، روح الشعوب. كل هذه الحرب في غزّة على شعب يجده العالم متجذرًا في بيئية الحميمة التي ألفها!

المقايضات بين الدول الأوروبية وبين جمهورية بون وإسرائيل والمؤتمر اليهودي العالمي أوصلت إلى راديكالية حرب غزّة

نفاجأ أنّ العالم الذي يحيط بنا هو عالم جديد جغرافيًا. عالم متمحور في الشرق الأوسط، ولم يعد كما كان، ويشكل تناقضًا ملموسًا مع سلفه من قوى الاستلاب والخضوع الطوعي. ما جرى تجاوز طابع الحرب التقليدية وطابع السياسة. وكان له بُعد كونيّ. الكل يسبح في المياه العميقة الشرق أوسطية، والكل لا يملك أشرعة وبوصلة في هذا المحيط، الذي لا يرى له شواطئ.

هذا التيه، حيث الإنسان لم يعد كما كان في ظل النظام الليبرالي/العدواني والشامل، البعيد عن عقيدته الإنسانية، تلك التي أطلقها البيان الفاتيكاني في أشد الأزمات وأعنفها، ويكررها عشية كل عيد ميلاد، "مبدأ إحترام الإنسان".

يمضي العالم إلى عام جديد في جو من عدم الإستقرار، وبحقائق لا يمكن تعديلها، تلك التي حصلت منذ الحرب العالمية الثانية على حساب الشعب الفلسطيني، منذ مؤتمر "بوتسدام"، الذي وافق فيه الحلفاء على التهجير القسري للسكان الألمان إلى أوروبا الشرقية (نحو 12 مليون شخص) في أكبر عملية ترتيب عرقي في التاريخ الأوروبي. يتذكر الجميع أنّ التسوية التي أشرفت عليها الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا الغربية بعد العام 1945، تشكّل إسرائيل امتدادًا لها، وتظهر مدى تعقيد نظام المقايضات، التي يحتاج إليها السلام.

في غزّة صراع قومي وعرقي وديني، وصراع سياسي قبل أن يكون صراعًا عسكريًا. هي معركة تحرير وطنية، يقابلها رعب القتل الإسرائيلي. كانت تسوية ما بعد الحرب العالمية ترتكز على مبادئ عالمية مجسّدة في الأمم المتحدة ومكتوبة في دستور ألمانيا الجديدة، وبعدها كانت التسوية بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي القديم. الآن لا شيء من ذلك. المقايضات بين الدول الأوروبية وبين جمهورية بون وإسرائيل والمؤتمر اليهودي العالمي أوصلت إلى راديكالية حرب غزّة، التي تمزج كل هذه المكونات. يضاف إليها ما هو أسوأ، حين لا تظهر حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة أي علامات خضوع للضغوط الأميركية والغربية للحد من الهجمات العشوائية المدمّرة.

المقاومون لا يختارون مهنة الحرب بسبب الدين أو الإيديولوجيا، يفعلون ذلك دفاعًا عن أراضيهم

ربما يكون الأكثر أهمية مطلع العام الجديد إطلاق نقاش دولي عام حول سلوك إسرائيل في غزّة، يسمح بدراسات استراتيجيات بديلة عن الحرب، تعترف بقيام دولة فلسطينية مستقلة (كما أعلنت إسبانيا) بعد فشل الحملة العسكرية الإسرائيلية على "حماس". يمكن للعالم الغربي أن يعقد مناقشات تتمحور حول سؤال بسيط، ما الذي سينتجه هذا القتل وإرهاب الدولة الإسرائيلي غير ذاته؟، بدل اعتراف إسرائيل ببدائل ذكيّة تلاقي تكيفات وإختلاطات الشعب الفلسطيني مع الواقع التاريخي البائس.

أحداث نهاية العام تعزّز درس التاريخ بضرورة وأهمية العالمية الإنسانية. المقاومون لا يختارون مهنة الحرب بسبب الدين أو الإيديولوجيا، رغم أنّ بعضهم يفعل ذلك. لكن معظم الأشخاص يفعلون ذلك دفاعًا عن أراضيهم، التي يعبترونها وطنهم (اليوم الفلسطينيون والأوكرانيون وغدًا شعوب أخرى).

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن