يعتقد المشاهد للوهلة الأولى أنّ الأمر قد يتعلّق بدراما تركية مبتذلة، تتصارع فيها الجواري للظفر بليلة بين أحضان السلطان، بينما يركض الآغاوات لاهثين بين مَخادع السلطانات المتآمرات. لكن سرعان ما نكتشف أننا في حضرة عمل تاريخي رصين، يقدّم في موسمه الأول الرواية التركية لملحمة فتح القسطنطينية، وقصة حروب الفاتح ضد عدوه الأزلي فلاد المخوزق في الموسم الثاني.
يغوص بنا المشهد الافتتاحي في أحلام الفاتح وكوابيسه، حيث يرى الرجل نفسه على مشارف أسوار القسطنطينية ملطّخًا بدماء العدو. يحدق السلطان الشاب طويلًا في أبواب عاصمة بيزنطة قائلاً: "يا قسطنطينية" إما أن أخضعك أو أخضع لك"، واضح أنّ السلطان كان مهووسًا بتحقيق "نبوءة الفتح".
تنتقل بنا الكاميرا بسلاسة بين مشاهد المعارك الطاحنة والمعسكرات الحربية حيث الإثارة وارتفاع مستويات الأدرينالين، وبين ردهات القصور الباردة المظلمة حيث تُحاك المؤامرات السياسية على يد نساء الحرملك، ومعلوم أنّ الإمبراطورية العثمانية اشتهرت على مرّ تاريخها بنساء قويات حرّكن دواليب الحكم وتداولن السلطة خلف الكواليس.
يقدّم لنا العمل نموذجًا فريدًا لسيّدة وضعت الحجر الأساس لما عُرف لاحقًا بـ"سلطنة الحريم"، والحديث عن مارا برانكوفيتش، أرملة مراد الثاني، السياسية المتمكّنة والديبلوماسية الهادئة التي لعبت دورًا مهمًا في توطيد العلاقات الخارجية للإمبراطورية العثمانية مع البلاطات الأوروبية.
نشاهد في الجزء الثاني من السلسلة، كيف تحول أصدقاء الأمس القريب، إلى أعداء تدور بينهم حروب دموية مدمّرة، وقد قدمت "نيتفلكس" بحذر شديد قصة "الصداقة" التي جمعت بين الثلاثي محمد الفاتح وفلاد الثاني ورادو الجميل، احترامًا للرواية الرسمية التركية البارعة في المراوغة التاريخية، ما دام أنّ التاريخ يكتبه المنتصر، كما هو معلوم.
لا يسعنا إلّا أن نثني على الأداء المُميّز لنخبة من الممثلين الأتراك الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية تلميع صورة الإمبراطورية العثمانية لدى المشاهد الغربي، ولا يسعنا أيضًا إلّا أن ننوّه باختيار القائمين على العمل الممثل الأسطوري تشارلز دانس الذي قام بدور الراوي، لأنّه أثرى بصوته الجهوري الفخم قصة الفتح.
نغبط تركيا على ريادتها في إعادة تدوير التاريخ، من خلال دراما مشوّقة اجتاحت العالم أجمع. فبين إغراء نساء القانوني، وشجاعة رجال أرطغرل، وانتصار محمد الفاتح، يجد المشاهد نفسه مفتونًا بالتاريخ العثماني.
في المقابل، يقبع التاريخ العربي المجيد معزولًا في زاوية النسيان، ونتساءل بحرقة هنا: ألا تستحق الذاكرة العربية دراما عالمية تليق بتاريخها العسكري الحافل؟ يملك الوطن العربي الكبير رصيدًا مشرًفًا من الانتصارات العسكرية العظيمة، فلماذا تغيب معاركنا ونضالاتنا ضد المستعمرين والمتربّصين عن أعمال سينمائية تخلّد مجدها؟
من المحبط جدًا أن نقف عاجزين عن تقديم دراما تاريخية بمواصفات عالمية، نحكي عبرها قصة فتح الاندلس أو معركة الملوك الثلاثة أو حروب التحرير العربية ضد الانتداب الفرنسي والانتداب البريطاني وغيرها من أحداث تاريخية غنية.
وأمام هذا الزخم التاريخي المتوفر على كل مقومات الدراما الملحمية، نتساءل أيضًا، أين مكمن الخلل؟ هل نحن أمام أزمة سيناريو، أو إخراج، أو إنتاج؟ لماذا يرفض صنّاع السينما في المنطقة العربية الاستثمار في التاريخ؟ ولماذا يشيح المخرجون بكاميراتهم عنه؟ ألا نملك نخبة من الممثلين القادرين على تقديم أدوار تاريخية بكاريزما عالية ولغة رصينة تقنع المشاهد الغربي مثلًا؟ ألا نملك وجوهًا سينمائيةً قادرة على منافسة الموديل التركي؟ وما سرّ تفادي السيناريست العربي للنص التاريخي؟.
نجحت تركيا في استقطاب منتجين من الولايات المتحدة الأمريكية عبر شركة الإنتاج التركية الأمريكية المشتركة [karga seven pictures] التي ساهمت مؤخرًا في وضع الدراما التركية على طريق العالمية، من خلال أعمال لاقت نجاحًا جماهيريًا دوليًا.
لماذا فشلنا فيما نجحت به تركيا؟ ولماذا فشلنا في جذب استثمارات أجنبية تساهم في تحريك بركة الإبداع؟ رغم توافر كل عوامل الجذب، من استقرار سياسي في العديد من الدول العربية، ونمو اقتصادي واعد، وبنية تحتية سينمائية عالمية في دول كالأردن وتونس والمغرب؟.
يتيح فراغ المشهد الدرامي التاريخي، المجال أمام ظهور أعمال مبتذلة تقدّم نسخًا رديئةً لتاريخنا، بل تتجاوز ذلك للتحريف الفج الصريح على مرآى ومسمع من الهيئات والمؤسسات الثقافية العربية التي تتخاذل بشكل مريب في حماية الحقيقة التاريخية وتوثيقها.
للصناعة السينمائية دورٌ كبيرٌ في تصدير الثقافات المحلية، والتعريف بغِنى الموروث التاريخي والحفاظ على التراث اللامادي للأمم. إنّ إغفال سينما التاريخ، هو جريمة متكاملة الأركان في حقنا جميعًا... فإلى متى ستظل الدراما التاريخية العربية محشورة في الزاوية في انتظار المخرج "الفاتح"؟.
(خاص "عروبة 22")