عرض الرجل أثناء خطابه، خارطة لمناطق مكسية باللون الأخضر الداكن للبلدان العربية التي تربطها اتفاقات سلام مع إسرائيل، أو هي في طور التفاوض لتطبيع العلاقات معها. نعاين بالمناطق المكسية بالأخضر، بلدان مصر والسودان والإمارات والسعودية والبحرين والأردن، ولا نجد أدنى ذكر لدولة فلسطينية ما، إذ أفردت إسرائيل لنفسها بالخارطة، لونًا أزرق يغطي أراضي الـ48، ثم الضفة الغربية، ثم قطاع غزّة بالكامل.
في أعقاب ضربة "طوفان الأقصى"، أعلن رئيس وزراء إسرائيل أنّ "رد إسرائيل على حماس، سيُغيّر شكل الشرق الأوسط ووجه المنطقة لعقود".
الغرض من الحرب محو قطاع غزّة في أفق ترجمة مشروع أميركي/إسرائيلي لربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط
مشاريع الشرق الأوسط (الكبير أو الموسّع أو الأوسع) ليست جديدة بالمرّة. يكاد عمرها يكون من عمر الإدارات الأميركية المتعاقبة منذ تسعينات القرن الماضي، لكنها تهاوت وأجهضت في المهد لأسباب شتى. بيد أنّ "طوفان الأقصى" أحياها، أعطاها زخمًا كبيرًا وفسح لها في المجال كي تتجسّد وتكون مكمن تقاطع بين المشاريع الأميركية في المنطقة، وما أعلن عنه نتنياهو في الدورة 78 للجمعية العامة.
لقد أدركت الولايات المتحدة أنّ التساوق مع المشروع الإسرائيلي، ورُحى الحرب دائرة، سيمكّنها من محاصرة مجموعة "البريكس"، ومن مواجهة المشروع الضخم، مشروع طريق الحرير، الذي باشرت الصين في إقامته. وسيمكّنها أيضًا من بناء محور منافس سيضيّق على الصين وحلفائها بالمنطقة وخارجها، وسيضمن لها الهيمنة على عالم ضاق بمنطق الأحادية القطبية.
لذلك، فإنّ دعم الولايات المتحدة المُطلق لإسرائيل وتزويدها المكثّف إياها بالسلاح والعتاد، وحثّها لتستمر في إحراق غزّة، لا يجد تفسيره فقط في التماهي العقائدي أو السياسي بين الحليفين. إنّه الباب السالك لتصريف المشروع الأميركي القائم على الوقوف في وجه مشاريع الصين العابرة للقارات، والتي تصل إشعاعاتها إلى سوريا وتخوم البحر المتوسط.
بالتالي، فإنّ الغرض من الحرب على غزّة ليس تدمير سلطة "حماس" أو استرجاع الرهائن وحسب، بل محو قطاع غزّة من الخارطة، في أفق ترجمة مشروع أميركي/إسرائيلي، يكون منطلقه إقامة قناة بن غوريون لربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط، عبر ميناء إيلات.
هو مشروع ضخم، بتكلفة قد تصل إلى 55 مليار دولار، وصُمِّم كي يكون باتجاهين متزامنين: من البحر الأحمر إلى المتوسط، ثم من المتوسط إلى البحر الأحمر.
استدراج مصر للقبول بتوطين سكان غزّة سيكون تضحية مجانية بدورها الإقليمي والقومي وتفريطًا في مكانة قناة السويس
إنه ممرّ بحري بامتياز، لكنه مُسند بخطوط سكك حديدية ستربط الهند بالشرق الأوسط وبأوروبا، وبخطوط شحن من وإلى السعودية والإمارات والأردن. هو نفسه ذاك الخط الأحمر الذي رسمه نتنياهو في خارطته باعتباره "ممرّ السلام"، والذي سيُمكّن من نقل البضائع والسلع بانسيابية كبيرة وفي غضون يوم أو يومين، عِوض الحاويات العابرة لقناة السويس، والتي يستغرق النقل عبرها أكثر من عشرة أيام.
"وجه الشرق الأوسط الجديد" يريد غزّة قطاعًا خاليًا من الفلسطينيين، مطهّرًا إثنيًا ومسوّى بالأرض. يريده رقعة جغرافية "نظيفة"، لأنّ المشروع لن يكون متمحورًا حول عملية ربط بحري مسنود بربط سككي فقط، بل سيتوسّع كي يضم مُدنًا نموذجيةً جديدةً وفنادق وملاهي وأسواق تجارية ومراكز اصطياف وما سواها.
من هنا يتأتى السر في حماسة بعض دول المنطقة لتمويل المشروع، أما استدراج مصر للقبول بتوطين سكان غزّة، نظير بعض الإغراءات، فسيكون تضحية مجانية بدورها الإقليمي والقومي، وتفريطًا مباشرًا من لدنها في مكانة قناة السويس ضمن تيارات الملاحة البحرية العالمية.
(خاص "عروبة 22")