قضايا العرب

إسرائيل والأمم المتحدة: تاريخ حافل بالإرهاب والترهيب!

تونس - فاطمة البدري

المشاركة

ثارت ثائرة إسرائيل بمجرد أن تخلّف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن السير على خطى حلفاء تل أبيب وتجنّب الانحياز المفضوح للكيان الصهيوني في حربه الشرسة ضد قطاع غزّة وبقية المدن الفلسطينية المحتلة. فبات غوتيريتش، الذي حاول إخطار العالم بخطورة ما يجري ضد المدنيين في غزّة بأكثر من آلية، في مرمى انتقادات المسؤولين الإسرائيليين التي وصلت حد المطالبة باستقالته واتهامه بالوقوف إلى جانب "الإرهاب".

إسرائيل والأمم المتحدة: تاريخ حافل بالإرهاب والترهيب!

لكنّ هذا الموقف الإسرائيلي ضد غوتيريش لم يكن جديدًا ولا مستبعدًا، إنما هو امتداد لسياسة معتمدة من دولة الاحتلال ضد عدد كبير من أمناء عامين ومسؤولين سابقين في المنظمة الدولية لم ينحازوا إلى صفها، تجاوزت في بعض الأحيان حدود الانتقاد والتنديد والتشهير والترهيب، لتبلغ حد الإرهاب والاغتيال.

في الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على غزّة قال الأمين العام للأمم المتحدة، صراحةً أمام مجلس الأمن، إنّ "الشعب الفلسطيني يتعرّض لاحتلال خانق منذ أكثر من 56 عامًا"، وإنّ "هجوم حماس لم يأتِ من فراغ"، وإنّ "أي طرف في الصراع المسلح ليس فوق القانون". ورغم أنه لم ينسَ أن يدين عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول وقال إنه "لا شيء يبرر الهجمات المروعة من قبل حماس"، إلا أنّ ذلك لم يكن كافيًا لإسرائيل التي أطلقت حملة شرسة ضده.

وفي 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، طالبت إسرائيل، غوتيريش بـ"الاستقالة فورًا"، بينما رفض وزير خارجيتها إيلي كوهين لقاءه بسبب هذه التصريحات. لكن رغم الاستهداف الاسرائيلي حاول غوتيريتش من مكانه أن لا يخضع لهذا الضغط وطالب مرارًا بوقف إطلاق النار في غزّة واتهم إسرائيل بـ"انتهاك القانون الدولي" واصفًا الحرب التي تشنها على غزّة بـ"الكابوس المرعب". ولإدراكه أن كلمته بلا تأثير أمام الفيتو الأمريكي والتواطؤ الغربي سعى لنقل ما يجري مع المدنيين الفلسطينيين من زاوية إنسانية، فتحدّث عن المجازر التي تُرتكب بحق الأطفال والنساء والتدمير الممنهج الذي يطال كل شيء، ولعله اختصر ما يجري عندما قال: "إنّ غزة قد تحوّلت إلى مقبرة للأطفال وأصبحت إلى مكان غير قابل للحياة".

وعقب هذه التصريحات زاد نسق الهجوم الإسرائيلي على المسؤول الأممي، وأصبحت قاعة الأمم المتحدة ساحة مواجهة بين غوتيريتش وبين السفير الإسرائيلي جلعاد إردان الذي لم يتردد في انتقاده بشدة بل وطالب صراحة بإقالته مستفيدًا من الدعم الكبير الذي يتلقاه الكيان الإسرائيلي من الدول الكبرى، ولا سيما الولايات المتحدة الأمريكية، واصفًا الأمين العام للأمم المتحدة بأنه "يعاني من تعفّن أخلاقي"، ومتوجّهًا إليه بالمباشر بالقول: "لقد فقدتَ بوصلتك الأخلاقية، ولا يمكنك أن تظل أمينًا عامًا ولو لدقيقة أخرى".

ومع استمرار المجازر في غزّة، قرر غوتيريش في السابع من ديسمبر/كانون الأول التصعيد في مواجهة الإجرام الإسرائيلي، فاستخدم للمرة الأولى منذ توليه منصبه عام 2017، المادة 99 من ميثاق الأمم المتحدة، محذرًا من أنّ ما يجري في فلسطين وخاصة في غزّة بات يهدد "السلم والأمن الدوليين"، وقال للمجتمع الدولي: "نواجه خطرًا شديدًا يتمثل في انهيار المنظومة الإنسانية. الوضع يتدهور بسرعة نحو كارثة قد تكون لها تبعات لا رجعة فيها على الفلسطينيين وعلى السلام والأمن في المنطقة". علما أنّ ميثاق الأمم المتحدة، ينص في مادته الـ99، بأنه يحق "للأمين العام أن ينبه مجلس الأمن إلى أي مسألة يرى أنها قد تهدد حفظ السلم والأمن الدولي". وتُمكّن هذه الأداة الأمين العام من لعب دور سياسي وطرح النقاش حول الملف الذي يرى أنه يستجيب لهذه المادة، والضغط من أجل اتخاذ قرارات بشأنه.

هذه الخطوة الجريئة التي صدرت عن غوتيريتش الذي يكاد يكون الأمين العام الأول الذي تجرأ على تحدي إسرائيل وفضح جرائمها بلا تردد أو مواربة، قد أثارت حفيظة دولة الاحتلال وأشعلت غضبها الذي ترجمته تصريحات ممثليها القوية وهجومهم العنيف والمكثف على المسؤول الأممي. حيث اعتبر وزير خارجيتها إيلي كوهين أنّ "فترة ولاية غوتيريش خطر على السلم العالمي"، ورأى أنّ "تفعيل المادة 99 والدعوة إلى وقف إطلاق النار هو دعم لمنظمة حماس الإرهابية"، على حد تعبيره.. ليرد غوتيريش على الانحياز الغربي لإسرائيل في مجلس الأمن بالقول: "حتى بعد الفيتو لن أستسلم".

الكاتب والناشط السياسي الفلسطيني أدهم أبو سلمية يرى عبر "عروبة 22" أنّ "الخلاف الدائم بين إسرائيل والأمم المتحدة هو نتاج استمرار إسرائيل منذ نشأتها سنة 1948 حتى هذه اللحظة بارتكاب جرائم حرب في حق الشعب الفلسطيني، سواءً بالتهجير أو القتل والاستخدام المفرط للقوة ضد المدنيين". وقال: "صحيح أنّ الأمم المتحدة كانت عاجزة عن الضغط على الاحتلال الإسرائيلي لتنفيذ أي من قراراتها التي اتخذتها على مدار 75 عامًا، إلا أنها في الوقت نفسه لم تكن تستطيع تبرئة ساحة الاحتلال الاسرائيلي، وعلى الأقل هي لا تبرر ما يرتكبه من مخالفات صريحة للقانون الدولي الإنساني ولما جاء في محكمة روما الدولية، خصوصًا بعض جرائمه التي ترقى إلى جرائم حرب على غرار الإبادة الجماعية الحاصلة في غزّة الآن، ولدى إسرائيل الرغبة في أن يخضع المجتمع الدولي بكليته لها ولجرائمها، وأن لا ينتقدها حتى، وهي تتحدث إلى المجتمع الدولي بسيف الولايات المتحدة الأمريكية المسلط على رقاب المظلومين طالما أنّ الظالم هو الاحتلال الإسرائيلي".

وأضاف: "لكن رغم كل الضغط تبقى الأمم المتحدة مضطرة لأن تصف الأمور بطريقة صحيحة، وأعتقد أن ما يقوم به غوتيريش يجعله واحدًا من أفضل الأمناء العامين على رأس هذه المؤسسة الدولية، ومن المؤكد أن إسرائيل ستبذل جهدًا كبيرًا من خلال لوبيات الكيان الصهيوني للإطاحة به وإزاحته عن منصبه كأمين عام للأمم المتحدة، لكن الرجل على الأقل سجّل موقفًا أخلاقيًا فيما يتعلق بجرائم الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعب الفلسطيني".

أما الخبير في الشؤون الفلسطينية والإسرائيلية صلاح العواودة فاعتبر أنّ "استخدام غوتيريش للمادة 99 طبيعي جدًا في ظل الكارثة الانسانية الحاصلة في غزّة بل هو تدبير متأخر جدًا"، وأضاف لـ"عروبة 22": "هو قال في البداية إن هجوم حماس لم يأتِ من فراغ ولكن أجبروه على الاعتذار وقال إنه قد أسيء فهم كلامه، ثم رجع وساوى بين هجوم حماس وبين ما تقوم به إسرائيل، واستند على شهادة الاحتلال ورواية نتنياهو المفبركة حيال أحداث 7 أكتوبر، رغم أن الأمم المتحدة شاهدة على كل ما يجري في القطاع والمدنيون الفلسطينيون يُقتلون في مؤسساتها في غزّة، وبالتالي لا يمكن اعتبار أنه منحاز للقضية الفلسطينية لكن رغم ذلك فمجرد تفعيله المادة 99 سيجعله عرضة للعقاب، ولن تكون العقوبة بالضرورة اغتيالًا أو زجًا في السجن إنما هناك وسائل أخرى متعلقة بمستقبله السياسي وغيرها من الأمور كأن يُستبعد اسمه من جوائز "نوبل" وما إلى ذلك على مستوى تحجيمه دوليًا".

والبرتغالي أنطونيو غوتيريش البالغ من العمر 74 عامًا لم يكن يومًا مصنّفا كعدو لإسرائيل أو من الشخصيات المغضوب عليهم، بل على العكس من ذلك كان يُعد "صديقًا حقيقيًا ومخلصًا للشعب اليهودي ودولة إسرائيل" كما وصفه رئيس المؤتمر اليهودي العالمي، رونالد لاودر في عام 2020 عندما تم منحه جائزة تيودور هرتزل. ولكن بمجرد أن تحوّل إلى ضفة المنتقدين لجرائم الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في قطاع غزّة أُخرج من خانة "الأصدقاء" وانضمّ إلى القائمة الطويلة للأمناء العاميين للأمم المتحدة والمسؤولين الأمميين الذين غضبت عليهم دولة الاحتلال وعوقبوا بطرق مختلفة، كانت أشدها عملية اغتيال السويدي الكونت فولك برنادوت.

ففي السابع من سبتمبر/أيلول 1948، كان السويدي الكونت فولك برنادوت، على متن سيارته برفقة عقيد فرنسي كان يجلس إلى جانبه عندما هاجمت عصابة شيترن الصهيونية المتطرّفة التي يتزعمها إسحاق شامير، موكبه وأطلقت عليه النار داخل سيارته في شارع عام بالقدس في المنطقة الواقعة تحت السيطرة الصهيونية. كان مرد الاغتيال هو اقتراح برنادوت الذي أرسلته الأمم المتحدة سنة 1948 للوساطة بين المتحاربين ولإعداد خطة لحل سلمي للصراع، عبر خطته للسلام في 27 يونيو/حزيران من السنة نفسها، والتي قضت ببقاء القدس بأكملها تحت السيادة العربية وعودة اللاجئين الفلسطينيين الذين فرّوا من القتال أو طردتهم العصابات اليهودية إلى بيوتهم واستعادة ممتلكاتهم. ولم يحاسب أحد عن عملية الاغتيال بل أصبح شامير رئيسًا للوزراء وطمر ملف اللاجئين بمجرد موت فولك برنادوت.

أما السويدي داغ همرشولد الذي تولى منصب الأمين العام للأمم المتحدة ما بين 1953 و1961، فكان يعمل على أن تكون المنظمة الأممية محايدة وفعالة، وكان شعاره أنّ "الأمم المتحدة لم تتأسّس لقيادة البشر إلى الجنة بل لحمايتهم من الجحيم". ولهذا لم يكن المسؤولون الإسرائيليون قابلين بوجود شخصيته الحيادية على رأس المنظمة الأممية. فقد وقف الدبلوماسي السويدي في وجه المساعي الإسرائيلية والضغوط الأميركية أيضًا عام 1958 لنشر قوات دولية في البقاع وبين سوريا ولبنان، مؤكدًا أنّ لبنان لم يطلب مطلقًا مثل هذه القوات، وأنه حتى لو حصل ذلك فإنّ الأمر يستحيل ذلك لوجستيًا. وهي خطوة أثارت غضب دولة الاحتلال حتى أنّ بن غوريون أعلنه صراحةً "عدوًا لإسرائيل". علما أنّ همرشولد قد لقي حتفه في حادث تحطم طائرة ما زالت ملابساته غامضة حتى اليوم.

ومن جانبه واجه الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة النمساوي كورت فالدهايم ما بين سنتي 1972 و1981 اتهامات وضغوط إسرائيلية وأميركية شديدة قوضت فرصه في الترشح لولاية ثالثة على رأس الأمم المتحدة. إذ اتُهم بأنه كان ضابطًا في الجيش النازي ومُنع من دخول الولايات المتحدة، رغم أنه نجح في الانتخابات النمساوية وصار مستشارًا للنمسا عام 1986. وكان هذا العقاب بسبب صدور قرارات أممية مناهضة لسياسة الاحتلال الإسرائيلي، ولا سيما القرار 35/122 بتاريخ 11 ديسمبر/كانون الأول 1980، الذي أدان إسرائيل لفرضها تشريعًا ينطوي على إحداث تغييرات في طابع ومركز الجولان، والقرار 35/207 بتاريخ 16 ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته، الذي رفض بشدة قرار إسرائيل ضم الجولان والقدس، هذا إلى جانب القرار 36/147 الصادر في اليوم ذاته، والذي أدان إسرائيل لمحاولاتها فرض الجنسية الإسرائيلية بصورة قسرية على المواطنين السوريين في الجولان.

وعوقب الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، بطرس غالي، بحرمانه من تجديد ولايته الثانية، لأنه تجرأ ونشر التقرير الذي أعده الجنرال الهولندي فان كابن في حينه عن مجزرة قانا في جنوب لبنان، وحمّل إسرائيل مسؤولية ارتكابها. ورغم موافقة الأمين العام، بناءً على طلب أميركي، على تعديل التقرير وإضافة التعليق الإسرائيلي عليه (خلافًا للقواعد المعمول بها)، إلا أنّ غالي دفع الثمن بأن حرمه الفيتو الأميركي من تجديد ولايته بعد أن صوّت لصالحه جميع أعضاء مجلس الأمن الأربعة عشر الآخرين.

إذًا الخلاف دائم بين إسرائيل والأمم المتحدة رغم أن الأخيرة تُعد بنظر الجميع أنها هي التي ساعدت وشرعنت ولادة دولة الاحتلال عندما أقرت الجمعية العامة في عام 1947 خطة الأمم المتحدة لتقسيم فلسطين، غير أنّ الخبير صلاح العواودة يؤكد أنّ إسرائيل لم تولد في الأمم المتحدة، وأن "بن غريون وعصابته نفذت مجموعة من الجرائم ضد عدد من الدول الأعضاء في الجمعية العامة وأجبرتهم على التصويت لصالح التقسيم، على غرار خطف أمراء واحتجازهم رهائن لما بعد التصويت، وتقديم رشوة مالية للمندوب الذي صوّت خلافًا لموقف بلاده، وهذه معلومات صادرة عن إسرائيل نفسها".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن