بصمات

أرض فلسطين: المستقبل الذي يضيء الماضي

نشر المؤرّخ والفيلسوف الألماني راينهارت كوزيليك سنة 1979 كتابه الرئيس "مستقبل الماضي" [le futur passé]، وهو الفيلسوف الذي عاش تجربة الحرب العالمية، إذ حاول من خلال هذا الكتاب البرهنة على أنّنا نستحضر الحاضر بعيون مستقبل الماضي، فالمستقبل الحداثي صار ماضيًا في ثنايا الحاضر، لكن يتمّ استدعاؤه لمحاكمة التجربة المعاصرة، لأنّها لم تحقّق الأفق المستقبلي الذي كانت الأزمنة الحديثة قد سطرته سابقًا، فيصير "مستقبل الماضي" هو الإطار المحدّد لاستدعاء معطيات هذا الماضي في ثنايا الفكر المعاصر، لذلك لم يعد الماضي هو من يضيء المستقبل، بل على العكس من ذلك المستقبل من صار ينير الماضي.

أرض فلسطين: المستقبل الذي يضيء الماضي

التاريخ تأسيسًا على ما سبق، ليس ذلك العلم الخاصّ المحدود بالماضي وذكرياته، إنّه يحتفظ براهنيته السياسية في ثنايا حاضرنا، ويتميّز بتحدٍ خاص يوجّهه بشكل مستمر إلى المعاصرين، بما يُحيلنا على سؤال المقالة: ألا يمكن استثمار هذه القراءة لتسليط الضوء على الأزمة الفلسطينية؟.

قد يجوز لنا، بكثير من الإزاحة عما طرحه راينهارت كوزيليك في كتابه، استخدام تجليات هذه القراءة على السياق الفلسطيني الإسرائيلي في إطار إعادة ترتيب مكونات الزمن، أي الماضي والحاضر والمستقبل.

"التحرّر" لا يرتبط بالتكلفة البشرية والدمار بقدر ما يرتبط بتحقق الانسلاخ عن الاستيطان

الأرض الفلسطينية هي مطلب مستقبلي ماضوي لدى الفلسطينيين والإسرائيليين، الجانب الأول يربط الأرض بما هي انتماء هوياتي لشعب بكامله، نثير هنا تجربة ما قبل الاستيطان، والثاني يربط الأرض بمفهوم "العودة" كما تمّ التنظير لها عند جماعة اليهود الإصلاحية "الهاسكالاه" خلال القرن التاسع عشر، وهو المفهوم الذي تمّ استثماره بناءً على مفهوم "التوبة" عند اليهود، وهي من بين تجليات تأثير الحركة الأنوارية والبروتستانتية الغربية في الفكر اليهودي، الأمر الذي يحقّق إمكانية لمّ الشتات من جديد وتحقيق الانتماء الجغرافي في صيغته الماضوية، وبالتالي يغيب حاضر هذه البقعة الجغرافية، ما دام أنّ زمنية المفاهيم المعبّرة عن تجارب الجانبين ترتبط بقدرتها على تحقيق المستقبل بناءً على هذا الاسترجاع الماضوي من عدمه، وهي عملية استرجاعية تمتد إلى العدة المفهومية المؤسِّسة للبناء السوسيوسياسي لكلا الطرفين، التي ترسم الإرادة وإمكانية إعادة ترتيب التاريخ وفق منظور مستقبلي ماضوي، ما يشحن المفاهيم بدلالات خاصّة.

"التقدّم" هنا لا يرتبط بالضرورة بمسار تصاعدي نحو الأمام، ما دام الأمام يستوجب بالضرورة تحقيق العودة إلى الوراء؛ أما "التحرّر"، فلا يرتبط بالتكلفة البشرية والدمار بقدر ما يرتبط بتحقق الانسلاخ عن الاستيطان.

واضح أنّ هذه الزاوية المفهومية المتعلّقة بالتجارب التاريخية للجانبين تملك قيمة لتوجيه الحركة التاريخية نحو الأصل أو نحو سياق النشأة بشكل لافت، فقد تضحّي إسرائيل بالرهائن ــ وهي على ما يبدو ماضية في ذلك ــ من أجل تحقيق واقع أرضي يزكّي الطرح الماضوي.

دلالة الانتصار لا ترتبط بإنقاذ الأرواح أو بتكلفة الحرب من الناحية البشرية والمادية، بل تتعلّق بما تحقّق على الأرض من توسّع وسيطرة أمام تهجير وإبادة تسمح بحيازة الامتداد الجغرافي، فالسبق الأرضي هو دلالة النصر.

واضح أيضًا أنّ هذا الامتداد الذي استغلّ بشكل كبير حالة الانحصار التي تعيشها القومية العربية التي تسير بهدوء مع توجهات الوكب الغربي، بتقبّل الاستيطان الإسرائيلي كواقع لا مفر منه، مما أغرى بالمقابل إسرائيل على ممارسة حرب شاملة تكسب من ورائها المزيد من التوسّع وتقلّص بالمقابل التواجد الفلسطيني، على أمل تحقيق الامتداد الجغرافي الراسم لهويتها الوجودية.

إنّها تجربة عيش سوسيوسياسية لمجريات الحرب البشعة، بما هي تيمة تخصّ الحاضر في ارتباط بأمل مستقبلي لتحقيق مطلب ماضوي، إنّه ليس معطى بسيطًا يكفي تجاوزه (تجربة الاستيطان، تجربة الشتات، تجربة العودة، تجربة التهجير)، وإنّما هو بناء يحيل على مكونات المجتمع باعتباره قاعدة رمزية لاستمرار الكفاح من أجل استعادة تجربة ما قبل الاستيطان أو استعادة أرض الميعاد وإنهاء الشتات.

الحدث يُصنع بطريقة لا خطية الذاكرة الجماعية التي يمكن أن تتبنّاه أو تتخلّى عنه بشكل جزئي أو كلّي أو تحوّله لأنماط وجودية أخرى. إنّها أشبه بلعبة لاسترجاع العتبات التاريخية وِفق منظور تراجعي.

الطابع الزمني للأزمة الفلسطينية يتجاوز التقطيع الذي قد يُمارَس بالمنطق التاريخي التقليدي

إنّ الصفات التاريخية التي يحملها حقل التجربة الاجتماعية والسياسية في السياق الفلسطيني والإسرائيلي، وكذا أفق الانتظار المتولّد عنه يدخل في فترة لها خصوصية زمنية تنفلّت عن التقسيم الشائع لمسار التاريخ، فيصير التقدّم مفهومًا هامشيًا أمام مطلب التحرّر أو إزاحة الاستيطان أو تحقيق الوجود الإسرائيلي، كأنّنا أمام حدث يسبق الصيغ الزمنية المعبّرة عنه، لا تسمح فقط بمنح وعي خاص لمعاصري هذه التجربة وسياق حدوثها أيضًا، ولكن تسمح كذلك بوضع أسُس المعرفة التاريخية الخاصّة بتاريخ المنطقة العربية والحسّ القومي ككل.

لهذا فالطابع الزمني للأزمة الفلسطينية يتجاوز التقطيع الذي قد يُمارَس بالمنطق التاريخي التقليدي، فالوظيفة الموكلة لمفهوم الأرض "فلسطين" هي وظيفة أسندها فاعلو الماضي (فلسطين/ إسرائيل/ العرب/ الغرب)، تبعًا لمنطق الانتماء الجغرافي أو الوظيفي أو المذهبي أو السياسي أو القومي، لتجربة زمنية ارتبطت بمفاهيم الاستيطان والانتداب والاستعمار والتحرّر.

الماضي في ظلّ هذا التجارب، من صار يُضيء المستقبل.. والعكس أيضًا صحيح.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن