من رحم المعاناة يولد الأمل، ومن جنح الظلام ينبثق ضوء النهار، ربما ينطبق مضمون هذه الأقوال الأدبية والبلاغية - وإن بصورة جزئية ـ على الحالة الفلسطينية، وذلك استرشادا بالخبرات السابقة التي رافقت الحالة النضالية الفلسطينية؛ حيث تترافق الأزمات والمحن مع نهوض متجدد للحركة الوطنية الفلسطينية؛ فعقب النكبة ولدت حركة المقاومة الفلسطينية، وأعقب خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في عام 1982، ظهور الانتفاضة الأولى 1987، وعقب كامب دافيد الثانية لبحث قضايا المرحلة النهائية، ولدت انتفاضة الأقصى عام 2000، وعقب إعلان دفن مسار أوسلو وموته؛ ولدت طوفان الأقصى، والمعنى المضمن في ذلك أن الحالة النضالية الفلسطينية قادرة على تجاوز المحن والكوارث، بل أن تكون هذه المحن جسرا للعبور إلى مرحلة أخرى أكثر تقدما وباعثة على الأمل.
شيء من ذلك أو بعض منه، قد ينطبق على الحالة الفلسطينية عقب طوفان الأقصى والعدوان الهمجي والبربري على مقدرات الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، وهو العدوان المسكون بالتدمير والانتقام والتهجير والتصفية، في حين تتعثر الأهداف المعلنة للعدوان حول القضاء على حركة حماس والمقاومة، وتحقيق الأمن المطلق لإسرائيل والمستوطنين، بعد صمود المقاومة البطولي طوال ما يفوق الثمانين يوما في مواجهة واحد من الجيوش المصنفة ضمن الخمسة الأولى من الجيوش في العالم، ومسنود عملياتيا وميدانيا ولوجستيا من الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول حلف الناتو، يتكبد العدو في مجرى العدوان خسائر تعتبر فادحة في قوات النخبة ويفشل حتى الآن في معرفة أماكن ومواقع احتجاز الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة، بل يقوم بقصف الأماكن التي تؤوى بعضهم.
والحال أن اليوم التالي لإنهاء هذه الحرب يحفل بالحديث المتواتر عن ترشيح السلطة الفلسطينية لإدارة قطاع غزة، ومباحثات بين فتح وحماس لانضمامها إلى منظمة التحرير الفلسطينية وكذلك بقية منظمات المقاومة الفلسطينية مثل الجهاد الإسلامي وغيرها.
وفي الواقع لم يكن ترتيب البيت الفلسطيني غائبا عن العقل الاستراتيجي لحماس، أي إنهاء الانقسام الذي استمر من 2007 حتى الآن، حيث كان هذا الهدف ضمن الشواغل الرئيسية والدوافع المركزية التي حركت عملية طوفان الأقصى، بالإضافة بطبيعة الحال إلى تقييم حصاد النضال الفلسطيني وضآلة منجزاته على الأرض، مقارنة بالتضحيات الكبيرة للشعب الفلسطيني، وكذلك اعتبار أن القوة الهجومية ضد إسرائيل هي وحدها المنوط بها القدرة على فتح مسار جديد للتفاوض العادل والجاد حول القضية الفلسطينية والدولة والقدس وإنهاء الاحتلال.
والحال أن إعادة بناء منظمة التحرير باعتبارها الوعاء الشامل للنضال الفلسطيني بتنوعاته ومرجعياته المختلفة هو الأسلوب الكفيل بتعظيم حصاد هذه العملية وخلق شراكة فلسطينية بناءة في صنع القرار وتنفيذه حربا أو سلما وأنه ليس من المنطق انفراد فصيل أيا كان حجمه وتأثيره في القرار الفلسطيني.
السلطة الفلسطينية أصبحت هي المرشح الوحيد لإدارة غزة بعد إنهاء العدوان والحرب؛ لأن الأطراف الدولية لا تريد التورط في غزة، كما أن الجانب العربي لا يريد أن يقف في مواجهة الشعب الفلسطيني، بيد أن هذا الترشيح مقيد من الناحية الدولية بالفاعلية الأمنية التي هى مطلب لمصلحة إسرائيل؛ أما ما يهمنا فهو الحالة الإقليمية والعربية والفلسطينية حيث لا بد من إسناد السلطة الفلسطينية في إدارة غزة إن من قبل الدول العربية ذات العلاقة الوثيقة بالملف الفلسطيني، أو من خلال قرار من الجامعة العربية وكذلك على الصعيد الفلسطيني الشراكة مع حماس في إطار الإنهاء المتوقع لملف الانقسام وإعادة بناء النظام الفلسطيني ككل بالانتخابات أو بالتوافق.
ثمة العديد من العناصر التي تزكي موقف السلطة وإدارتها لغزة، من بينها الاعتراف العربي والدولي والشرعية التي تحظى بها وامتلاك الكوادر الدبلوماسية والفنية للتعامل مع مختلف الملفات التي ستطرح بعد الحرب، كما أن السلطة حتى الآن هي العنوان لدى المجتمع الدولي للقضية الفلسطينية، من ناحية أخرى فإن عودتها إلى غزة هي بمثابة عودة الشيء إلى طبيعته وأصله، حيث لم تخرج السلطة إلا في عام 2007 عقب استيلاء حماس على غزة وطردها منها، في حين أن علاقة السلطة بغزة استمرت في مجالات الصحة والتعليم والمرافق المدنية والمرتبات والإدارة باستثناء الوظيفة الأمنية.
أما التحفظات الأخرى التي تتردد حول مصداقية السلطة الفلسطينية وتآكل رصيدها الشعبي، فإن إطلاق عملية إصلاح شاملة وحقيقية بهدف تجاوز الانقسام وانجاز وحدة الهدف والصف الفلسطيني وبناء شراكة جديدة وجدية في صنع واتخاذ القرار، كفيلة بتجاوز هذه التحفظات وفتح صفحة جديدة في النضال الفلسطيني وتعزيز رصيد الشعب الفلسطيني.
كان شعار السلطة دائما لا دولة في غزة ولا دولة بدون غزة والحال أن انضمام حماس إلى المنظمة، أي منظمة التحرير الفلسطينية، سيوفر غطاء سياسيا ومظلة شرعية قانونية وسياسية لحركات المقاومة وتصبح هذه الحركات رصيدا استراتيجيا للشعب الفلسطيني تحت قيادة موحدة وشراكة وطنية بناء وجادة تتناسب مع الظروف المستجدة في كل المجالات المحلية والإقليمية والدولية في المرحلة المقبلة عقب الانعطافة الاستراتيجية الكبرى التي تحققت بعملية طوفان الأقصى وتداعياته الآنية والمستقبلية.
("الأهرام") المصرية