نزعم أن الكتاب التي نتوقف عنده في هذا العرض يندرج ضمن الخانة الثانية، والحديث عن كتاب يحمل عنوان "المجتمع القادم"، وصدر عن دار النشر الفرنسية "سوي"، (ط 1، 2022)، وهو كتاب أشبه بمجلد، موزع على 1328 صفحة، تحت إشراف ديديي فاسان، طبيب وأنثروبولوجي، بروفيسور في معهد الدراسات العلمية المتقدمة بجامعة برنستون الأميركية ومدير الأبحاث بمدرسة الدراسات العليا للعلوم الإنسانية بباريس.
أسئلة مركّبة لقراءة أزمات معقّدة
هناك عدة مفاتيح لقراءة وتلخيص الكتاب، لعلّ أهمّها حضور مفهوم الأزمة وواقعها الذي لا يسلم منه أي مجال، وثمة بداهة عنوانها تعدّد الأزمات الراهنة التي تمرّ منها العديد من دول العالم، من الأزمة المالية إلى الأزمة الصحية كما جرى مع الجائحة، مرورًا بالأزمة البيئية وأزمة اللاجئين وأزمة الديمقراطية، بل هناك أقلام بحثية تتحدث عن أزمة الرأسمالية ومعها أزمة النيوليبرالية، واللائحة مفتوحة، كأن الظاهرة أصبحت لازمة الأزمنة المعاصرة، ومن تبعات هذه المعضلة أن أغلب الحلول المعنيّة بمواجهتها أو التفاعل معها غالبًا ما تكون ظرفية أو أحادية، بما فيها الحلول الصادرة عن المقاربات الإيديولوجية؛
ميزة هذا الكتاب أنّ أرضيته النظرية ارتأت الحديث عن لحظة أزمات أو منعطفات تتطلّب مقاربات متعدّدة التناول، بما يُفسّر عدد المشاركين في تحرير محاوره، وعددهم أربعة وستون إسمًا من القارة الأوروبية وقلّة من خارج القارة العجوز، قصد تحرير تأملات جماعية تسعى إلى طرح الأسئلة اللصيقة بالحقبة الزمنية الراهنة والتي تمهّد لحقبة قادمة مفتوحة بدورها على عدة مستجدات وتحديات.
القاسم المشترك في أغلب المحاور التي توقف عندها العمل، سواء كانت تهمّ السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع أو الطب أو القضايا الاستراتيجية وغيرها، التطرق إليها من منظور استشرافي دون الزعم أن الكتاب يندرج أو يُصنّف في خانة أدبيات المستقبليات أو أدبيات علم الاستشراف أخذًا بعين الاعتبار أنّ عنوانه يتحدث عن "المجتمع القادم"، بقدر ما تتطرق مضامينه إلى التحوّلات التي تهمّ العديد من القطاعات في الساحة الأوروبية والعالمية، تقتضي التفكير في معالمها والتحديات المرتبطة بها منذ الآن، بما يُفسّر تعدّد الحقول العلمية أو التخصّصات التي تنهل منها الأقلام المساهمة، حيث نجد من يشتغل في العلوم السياسية أو علم الاجتماع أو الديمغرافيا أو الفلسفة أو التاريخ ضمن تخصّصات أخرى.
غِنى المحاور والمقاربات
بالنسبة لمحاور الكتاب، فقد جاءت تحت العناوين التالية: الرهانات، السياسات، العالم، التفاوتات، الاعترافات، الاكتشافات، وأخيرًا هناك محور تحت عنوان "مساحة حرّة"، تضمن ست مساهمات، مع الإشارة إلى أن هذه المحاور موزّعة لدورها على قضايا ذات صلة بعنوان المحور، على سبيل المثال بالنسبة للمحور الأول وعنوانه الرهانات، فقد تضمّن مجموعة من المساهمات موزّعة على القضايا التالية: الأرض، العولمة، الهجرات، الجائحة، التطرّف العنيف، المؤامرة، التنمية، المنصّات الرقمية.
في المحور الثاني المخصّص للسياسات، نقرأ دراسات حول الديمقراطية، الشعوبية، النيولييرالية، النزعة التقدمية، التمثيلية، المشاركة السياسية، البيئة، حقوق الإنسان، تعبئة الشارع؛ أما في محور العالم، فنقرأ دراسات حول العائلة، الضواحي، البوادي، العمل، الفقر، الأمن، العدالة، السجن، المستشفى، الجامعة، الثقافة؛ في محور التفاوتات، هناك دراسات حول مفاهيم الإنتاج، التفرقة، الغنى، المدرسة، الصحة، النساء، الشباب، المنفيون؛ في محور الاعترافات، نقرأ دراسات حول الطبقات، الجندر، العرق، الجنس، العلمانية، المواطنة، الحميمية، الرعاية، ما بعد الاستعمار، ثم المحور السادس والأخير وعنوانه الاكتشافات، وتوزّعت مضامينه على قضايا المشترك الإنساني، الاقتصادي التشاركي، آفاق إنتاجية، الاستهلاك، احتلال الأماكن العمومية، العصيان المدني، الضيافة.
بخصوص محور "مساحة حرة" (ص 1073 ــ ص 1175)، فقد تضمّن ستّ دراسات حرّرتها أقلام فكرية من داخل وخارج القارة الأوروبية، قاسمها المشترك أنها توصلت بدعوة من مُنسق العمل دون تحديد موضوع قيد الاشتغال وضمن هذه المساهمات، كانت الأولى للفيلسوف الإيطالي روبيرتو إيسبوزيتو مشتغلاً على معضلة المناعة الجماعية على ضوء دروس الجائحة؛ أما الاقتصادية البرازيلية لينا ليفيناس فقد تطرّقت لنتائج تدبير الجائحة على دول أمريكا الجنوبية؛ من جهتها، ساهمت الباحثة الفرنسية في الدراسات النسائية، إصلاح جاد عبر دراسة مخصصة لمكانة المرأة لدى الجماعات الإسلامية، من خلال تركيزها على سؤال الجندر؛ أما الفيلسوف الألماني أكسيل هونيث فقد ساهم بدراسة حول تطورات مفهوم العمل في المنظومة الرأسمالية.
من بين اكتشافات الكتاب أيضاً، المساهمة الخامسة في هذا المحور ــ الملحق والحديث عن دراسة للفيلسوفة الألبانية ليا يوبي وتحرّر في الفلسفة السياسية حيث دقّقت في تحوّلات التيارات اليسارية من قضايا الهجرة، وأخيرًا، جاءت الدراسة السادسة في المحور بقلم الباحث السنغالي فيلوين سار، والذي امتلك شجاعة الخوض النظري في معضلة "ما بعد الإنسان" أو "الإنسان البعدي" استئناسًا بدلالات ترجمة الراحل مطاع صفدي لمفهوم ما بعد الحداثة، عندما فضل الحديث عن "الحداثة البعدية". وتميّزت مساهمته بسقف نظري رصين، مع حضور أسئلة ذات هواجس فلسفية، كما تشهد على ذلك طبيعة المراجع التي نَهَلَ منها في الدراسة، من قبيل أعمال حنا أرندت، جوديث بتلر، مارثا نوسباوم، أمارتيا سين، أو برنارد ستيغلر.
التعارض بين العمّال الأجانب والعمّال المحليين حسب ليا يوبي، تعارض وهمي لأنه يُشوّش على الأهم في المعضلة، وهو الانتصار لأخلاق التضامن بين مختلف الفئات العمّالية، أما أن يصبح هذا التضامن تحت شعارات سياسية، فإنه سيقوّض مصالح الطبقات العمّالية، وواضح أنه كلّما تراجعت مؤشرات التضامن بين الطبقات العمّالية كلما تراجعت مؤشرات تحقيق مطالبهم. وتضيف ليا يوبي أنّ أزمة الشغل في الساحة الأوروبية غير مرتبطة بالعمّال الأجانب ولا بفتح الحدود أمام الأجانب واللاجئين، لأنه مع المنظومة الرأسمالية، المدراء يُشجعون انتقال العمّال بلا حقوق، كأنها تحلم بدولة رأسمالية تتحكّم بشكل مباشر في حرّية تنقّل العمّال من منظور مادي صرف. ليس العمّال الأجانب الذين يهددون أسواق الشغل في القارة الأوروبية وإنما الدولة الرأسمالية التي تحمي مصالح النخبة المتحكمة عبر سنّ تشريعات الضبط الخاصة بالحدود أو سنّ تشريعات داخلية صادرة عن طبقة سياسية هدفها المزيد من التحكّم في الطبقة العمّالية.
من المساهمات النوعية في الكتاب تلك المخصصة لموضوع المنصّات الرقمية [ص 185 ــ ص 200]، بقلم عالم الاجتماع أنطونيو كاسيلي، ومعلوم أنّ أحداث الجائحة بين 2020 و2021 ساهمت في صعود أسهم هذه المنصّات، وموازاةً مع ذلك، تطوّرت وتيرة أداء أغلبها قبيل الجائحة وتبقى معرّضة لمزيد تطوّر مع تقنيات الذكاء الاصطناعي، وليس صدفة أن أغلب المؤسسات سالفة الذكر، لديها مشاريع تروم الاستفادة من الإمكانات التي توفرها معضلة هذا الذكاء. وقد خلصت الدراسة إلى أن تأثير هذه المنصّات يبقى مؤكدًا في المستقبل دون أن تتضح معالمه، إلا أن هذه الضبابية تتطلب الحسم في التحديات المرتبطة بها وذات الصلة بقطاع الشغل على الخصوص، أما الزعم بأن هذه المنصات محايدة تقنيًا، فإنّ الأمر مغاير عندما نتحدث عن أدوارها سياسيًا، حتى إن أهم المعارك المرتبطة بالتفاعل مع أداء هذه المنصات خلال السنوات الماضية، لا تخرج عن إجبارها على أن تكون أكثر شفافية في التعامل مع مستعمليها.
هموم سياسية مشتركة
واقع المشاركة السياسة في السياق الراهن هو محور دراسة بروفيسورة الدراسات العمرانية ماري هيلين باكي (ص 314 ــ ص 331)، حيث توقفت مليًا عند تصاعد موجة الديمقراطية التشاركية في العديد من الدول، ومضيفة أن هذا النمط الحديث من الممارسة السياسية يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية وموازين قوى قادرة على تفعيله مع الزمن، كما تتطلّب المزيد من التأقلم وإعادة إنتاج أفكار مبدعة. كما توقفت الباحثة عند مؤشرات دالة بخصوص استمرار الظاهرة من قبيل ارتفاع شعبية الديمقراطية التشاركية في النقاشات العمومية بالعديد من الدول، أو ارتفاع مؤشرات المشاركة في مواقع التواصل الاجتماعي، وفي ممارسات الحكامة، مما يفتح آفاقاً عدة بخصوص التحولات الديمقراطية، وإن كانت مؤشرًا في آن على بعض الحدود أو الهشاشة اللصيقة بها في مواجهة منطق التوظيف وتحييد البعد السياسي وخاصة في المجالات المجتمعية التي تتسم بانحرافات في ممارسات السلطة.
تحوّلات مفهوم العدالة [ص 509 ــ ص 523] كان موضوع مساهمة القاضية الفرنسية ميراي دلماس مارتي، والتي توفيت بُعيد صدور الكتاب بشهر، واشتهرت لدى المتلقي العربي بكتابها المشترك مع مارتي أمزازي ومحي الدين تحت عنوان "التحوّلات الممكنة للسياسات الجنائية العربية" (2013)، حيث خلُصت في خاتمة دراستها إلى أنّ التطورات التي يمرّ منها مفهوم العدالة على الصعيد العالمي وفي مقدمتها الانتقال نحو "العدالة الحربية" [خصّت بالذكر محاكمات ما بعد الحرب العالمية الثانية، أو تنظيرات بعض المفكرين الأمريكيين في حقبة ما بعد اعتداءات نيويورك وواشنطن]، معتبرةً أنّ ما اصطلحت عليه "تأثير 11 سبتمبر" ساهم في تكريس الارتباط بخصوص أو حتى التماهي بين مفهومين للعدالة، أي عدالة خاضعة للقانون وأخرى فوق القانون، بدليل التطورات الدولية التي جرت بعد تلك الأحداث، حيث أصبحنا منذ ذلك المنعطف نتحدث عن قتال العدو غير الشرعي، أي عدو خارج القانون، ليس مرجمًا وليس مقاتلًا، لا يستفيد من المحاكمات العادلة ولا من الحقوق المرتبطة بشن الحروب، واستشهدت هنا بما جرى في معتقل غوانتانامو، لكن في الشق السياسي، ساهم هذا التأثير في توسيع دائرة الدفاع الشرعي وتوسيع دائرة شن الاعتداءات، سواء كانت ضد الدول أو ضد الجماعات.
ندرة المساهمات العربية
عدد الأسماء العربية المشاركة في العمل الجماعي لا يتجاوز عدد رؤوس أصابع اليد الواحدة، والحديث عن إسمين فقط، الأول الموحود موحود (ص 55 ــ ص 72)، اقتصادي فرنسي من أصل جزائري، وشارك بدراسة حول تحولات مفهوم العولمة في المحور الأول، متوقفًا عند ثلاث محطات مرّت منها الظاهرة، الأولى تمتد من 1950 حتى 1990، قادتها الدول الصناعية؛ ثم المرحلة الثانية واصطلح عليها "العولمة الفائقة" وتمتد من وجهة نظره من 1990 حتى 2010، وتميّزت بدخول دول جديدة في المنظومة، وتميّزت باتساع رقعة العولمة من خلال ثلاث محطات أساسية [جاءت الأولى في عقر القارة الأوروبية مع دخول بعض دول أوروبا الشرقية، وجاءت الثانية من خلال اتفاقيات مراكش الموقعة في 1994 والتي مهّدت بتأسيس المنظمة العالمية للتجارة، وأخيرًا، دخول الصين والهند والدول المصنفة في خانة الاقتصادات الصاعدة]؛ أما المحطة الثالثة في تحولات الظاهرة، فتبدأ منذ 2010، واصطلح عليها "ما بعد العولمة"، ومن أهم خصائصها انخراط العالم بأسره في "العولمة الرقمية".
من أهم خلاصات الدراسة، وجاءت في صيغة تساؤلات، استفسار الباحث عن سُبُل التصدي لتشعبات العولمة الراهنة وتمركز الرأسمالية العالمية ومعها أهم المبادلات التجارية بين أيدي حفنة من المجموعات الاقتصادية العولمية، وهو التمركز الذي ساهم في صعود الشعبوية وظهور مجموعات جديدة من المحرومين وبزوغ نزعات قومية محلية أكثر محافظة.
بالنسبة للمساهمة الثانية المحسوبة بشكل أو بآخر على مرجعية عربية، فتعود لسارة معزوز، وهي عالمة اجتماع فرنسية من أصل تونسي، وشاركت بدراسة حول موضوع العرق [ص 792 ـ ص 808] مع أن هذا الموضوع أصبح متجاوزًا في العديد من النقاشات البحثية، لكن حضوره خلال السنوات الأخيرة، سواء في الساحة الأوروبية مثلًا، أو في المنطقة العربية، بما في ذلك حضوره مؤخرًا على هامش الانتخابات الرئاسية التركية مع بعض المرشحين، يضفي أهمية على مساهمة الباحثة، وما يضفي أهمية على مساهمة الباحثة نفسها، كم ونوع المراجع التي اعتمدتها.
(خاص "عروبة 22")