"طوفان الأقصى" وما تبعها من عدوان إسرائيلي على قطاع غزّة، فرضت على مصر وضعًا معقدًا، فرغم خروجها نظريًا من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي منذ توقيعها "كامب ديفيد" قبل أكثر من 4 عقود، إلا أنّ القاهرة لا تزال طرفًا منخرطًا في كل جولات الصراع بين المقاومة الفلسطينية والعدو الصهيوني، كما لا تزال عقيدة مؤسساتها العسكرية والأمنية كما هي، فإسرائيل هي العدو الاستراتيجي وفلسطين هي قضية مصر المركزية ويتم التعامل معها باعتبارها قضية أمن قومي.
لو تخلّت مصر عن المقاومة في غزّة كليًا، سقط خط الدفاع الأول وانكشف الأمن القومي المصري
الحقيقة، أنّ الأنظمة المصرية التي تعاقبت على الحكم بعد رحيل الرئيس أنور السادات صاحب امتياز "كامب ديفيد"، تحكمها معادلة غاية في التعقيد، فمن ناحية لا تستطيع لحسابات كثيرة اتخاذ موقف معلن داعم للمقاومة الفلسطينية المسلّحة، ومن ناحية أخرى لا يمكنها التخلي عنها، أو غض الطرف عما يجري على حدودها، فمصر هي الدولة الوحيدة المتاخمة لميدان القتال، ودورها التاريخي والإقليمي - حتى لو تراجع لأسباب يطول شرحها - يفرض عليها ألا تتنصل من مسؤولياتها.
"لو انحازت مصر علنًا لفصائل المقاومة في قطاع غزّة ودعمتها، وضعت نفسها في خانة العداء مع الغرب والولايات المتحدة - الحليف الاستراتيجي - المتحكّم في زمام الدول والمؤسسات المانحة والمقرضة والقادر على المنع والحصار والتضييق على كل من قرّر اللعب في فريق الممانعة، ولو تخلّت عن المقاومة كليًا ما يسهل من هزيمتها، سقط خط الدفاع الأول وانكشف الأمن القومي المصري ما قد يقرّب إسرائيل من تنفيذ حلمها بإعادة احتلال سيناء"، يشرح مسؤول مصري سابق المعادلة التي تحكم تعامل مصر مع الصراع بين الدولة العبرية والمقاومة الفلسطينية.
وجد السيسي نفسه بعد أيام قليلة من إعلان ترشّحه، ممسكًا بكتلة نار اشتدت جذوتها بعد أن كشف قادة إسرائيل عن خططهم الرامية إلى تهجير سكان القطاع قسريًا إلى سيناء، كي يتخلصوا نهائيًا من صداع غزّة، تمهيدًا لتصفية القضية الفلسطينية، وهو المخطط الذي شدد الرئيس المصري مرارًا عن رفضه، كما حذر وزير دفاعه من تداعياته الخطيرة، مؤكدًا على ضرورة امتلاك "القوة الرشيدة" لتأمين السلام، فمن "يمتلك مفاتيح القوة هو القادر على صنع السلام".
قاوم السيسي ومؤسسات الدولة المصرية مخطط التهجير، ورفض ضغوط وإغراءات مالية غربية، ورغم تلقيه تطمينات من واشنطن بأنها لن تقبل بتوطين الفلسطينيين في سيناء، إلا أنّ دولة الاحتلال لا تزال ماضية في تنفيذ مخططها بتحويله إلى أمر واقع.
تشكيل تحالف دولي لحماية الملاحة في البحر الأحمر يعرّض أمن الدول العربية المطلة عليه للانكشاف
ارتباطًا بما يجري في فلسطين، وجد النظام المصري نفسه أمام أزمة تتصاعد على بوابة البحر الأحمر الذي تمر منه السفن لتعبر قناة السويس والتي تُعد أحد أعمدة الاقتصاد المصري المأزوم، فبعدما فتحت جماعة "أنصار الله" اليمنية (الحوثيين) جبهة في باب المندب مستهدفةً السفن الإسرائيلية أو تلك التي تبحر إلى الدولة العبرية، أعلنت العديد من شركات النقل الدولية تحويل مسارها إلى طريق رأس الرجاء الصالح، ما أثر وسيؤثر على مداخيل القناة، الأدهى ما أقدمت عليه الولايات المتحدة بدعوتها إلى تشكيل تحالف دولي لحماية الملاحة في البحر الأحمر، وهو ما يعني أنّ ذاك الممر المائي العربي سيكون تحت رحمة قوى أجنبية ما يعرّض أمن الدول العربية المطلة عليه للانكشاف.
ولأنّ المصائب لا تأتي فرادى، شجعت حالة السيولة الناجمة عن الحرب الأهلية في السودان، وغياب النظام الحاكم بعدما سيطرت مليشيا "الدعم السريع" على مساحات واسعة من السودان، حكومة إثيوبيا على الاستمرار في تعنتها وإفشال المسار التفاوضي مع دول المصب بشأن سد النهضة، ما دعا القاهرة إلى الإعلان رسميًا عن فشل المسار التفاوضي مع أديس أبابا.
وفي اليوم التالي للإعلان عن فوز السيسي للانتخابات الرئاسية، أعلن وزير الري المصري هاني سويلم نهاية العملية التفاوضية مع إثيوبيا، نتيجة لمواقفها الرافضة للأخذ بأي مقترحات من شأنها تأمين مصالح الدول الثلاث "مصر والسودان وإثيوبيا"، فضلًا عن تراجُعها عما تم التوصل إليه من تفاهمات سابقة، مؤكدًا أنّ القاهرة "ستحتفظ بحقها فى الدفاع عن أمنها المائي والقومي حال تعرّضه للضرر".
صار محبس شريان حياة المصريين في أيدي الأحباش المدعومين من إسرائيل وحلفائها الغربيين والإقليميين
جرجرت إثيوبيا مصر خلال السنوات العشر الماضية إلى متاهة المفاوضات، وضربت بعرض الحائط كل الدعوات التي تقضي بضرورة التوصل لاتفاق ملزم يجعل من دولتَيّ المصب طرفًا في عمليات ملء السد وتشغيله، حتى أصبح السد أمرًا واقعًا، وصار محبس شريان حياة المصريين في أيدي الأحباش المدعومين من إسرائيل وحلفائها الغربيين والإقليميين، ما يعني أنّ جريان النيل في فترات الجفاف قد يكون مرهونًا برضا تل أبيب أو واشنطن أو عواصم عربية متواطئة ضد الأمن القومي المصري.
لم يشرح الرئيس في الكلمة المقتضبة التي أعقبت إعلان فوزه كيف سيتعامل مع تلك التحديات الكبرى التي تواجه بلاده (العدوان على غزّة، سد النهضة، مشروع تفكك السودان، إضافة إلى فشل المسار السياسي واستمرار حالة اللادولة في ليبيا)، فلم يطرح على الرأي العام تصوراته واستراتيجياته للتعامل معها، تمامًا كما لم يضع أمام الجمعية الناخبة للشعب المصري قبل بدء المعركة الرئاسية برنامجًا محدد الملامح للخروج من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها البلاد.
المصارحة والمكاشفة في تلك اللحظات، تجعل من الشعوب شريكًا في اتخاذ القرارت وتحمّل تبعاتها، خاصة إذا كان الرئيس عازمًا على بناء دولة ديمقراطية وفق رؤية مشتركة، بحسب ما أكد في كلمة الفوز بالاستحقاق الرئاسي.
(خاص "عروبة 22")