جرت التقاليد عند اقتراب الأعوام الميلادية من نهاياتها الزمنية في النصف الثاني من شهر ديسمبر من كل عام أن يدرس ويناقش المحللون أبرز الأحداث والتطورات السياسية التي حفلت بها، لكن عام ٢٠٢٣ ومن منظور المشهد المأساوي الراهن بالشرق الأوسط على ضوء العدوان الذي يشنه جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، والذي تجاوز الثمانين يوما الآن، وصمود حركات المقاومة الفلسطينية، وقدراتها على تكبيده خسائر كبيرة في الأفراد والعتاد، يستدعي ان ننظر إلى ٢٠٢٣ أيضا من منطلق تأثيرها المؤكد على الأوضاع السياسية والأمنية في الشرق الأوسط خلال عام ٢٠٢٤.
وبطبيعة الحال ستكون مصر وسياستها الخارجية في موقع الصدارة في التعامل الوطني والقومي الرصين مع تداعيات أخطر حدث بالمنطقة في ٢٠٢٣، ألا وهو هجمات حركات المقاومة الفلسطينية بقيادة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على جنوب إسرائيل في السابع من أكتوبر الماضي، تلك الهجمات التي اعتبرتها إسرائيل أخطر ما تعرض له الشعب اليهودي منذ ما أطلق عليه تاريخيا المحرقة خلال الحرب العالمية الثانية.
لا شك أن هذه الهجمات والعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني في غزة وفي الضفة الغربية غيرت المعادلات السياسية في الشرق الأوسط ، وعملت على فرز المواقف للأطراف الفلسطينية والعربية والإقليمية والدولية في إطار التعاطي مع القضية الفلسطينية من جانب ومستقبل مخططات الاندماج الدبلوماسي- الإقليمي لإسرائيل في الشرق الأوسط من جانب آخر. من هذا المنطلق تحديدا على الأطراف المعنية مباشرة بالقضية الفلسطينية، وهم بالطبع الفلسطينيون في المقام الأول، ثم الدول العربية، أن تعيد تقييم مسارات السلام الماضية منذ نهاية السبعينيات.
من أهم تداعيات هذا الزلزال الذي ضرب إستراتيجية السلام الماضية مع إسرائيل هو التأكيد مجددا على عنصرين أساسيين للأمن والسلام الحقيقي في الشرق الأوسط، والسلام الحقيقي هو السلام القابل للاستدامة، لأنه سيستند على صيغة الأرض مقابل السلام، وليس معادلة بنيامين نتنياهو الصهيونية الداعية إلى السلام مقابل السلام، تلك المعادلة التي فجرت الأوضاع الحالية في الشرق الأوسط. بمعنى آخر أن المحاولات الصهيونية لفصل السلام عن موضوع السيادة الفلسطينية على كامل التراب الوطني الفلسطيني هي محاولات فاشلة هدفها الوحيد تمكين إسرائيل من ضم إما الضفة الغربية بالكامل أو أجزاء كبيرة منها تضم الكتل الاستيطانية الكبرى.
اما العنصر الآخر فهو يرتبط بقابلية نجاح الإستراتيجية الأمريكية لتحقيق ما سمته الإدارة الأمريكية الحالية بالاندماج الدبلوماسي لإسرائيل، ليس فقط في العالم العربي، وإنما في العالم الإسلامي أيضا. قبل هجمات ٧ أكتوبر كانت الولايات المتحدة تبذل جهودا مكثفة لتوسيع الدائرة الجغرافية لما يعرف باسم الاتفاقيات الإبراهيمية لعام ٢٠٢٠. ولعل توقيت هجمات المقاومة الفلسطينية في ٧ أكتوبر الماضي كان مرتبطا بصورة غير مباشرة بالرد على مثل تلك الجهود وإجهاضها، لأنها كانت على حساب المصالح والحقوق الوطنية الفلسطينية غير القابلة للتصرف.
عام ٢٠٢٤ بالشرق الأوسط سيكون عام التعامل مع ما خلفه العدوان الإسرائيلي من آثار على الأمن وفرص الاستقرار في المنطقة، والذي سيرتبط بمجموعة من العوامل الرئيسية، في مقدمتها اصطفاف فلسطيني وطني وموحد في التعاطى مع جميع جوانب القضية الفلسطينية وبصفة خاصة في إدارة قطاع غزة عندما تسكت المدافع، وعما إذا كان القرار الفلسطيني يحظى بإجماع فلسطيني شامل ودائم. العامل الآخر يتعلق بالداخل الإسرائيلي وعمليات التحقيق والمراجعة في سياسات وتوجهات الائتلاف اليميني المتطرف الحاكم ومستقبله السياسي.
والعامل الثالث يتعلق بالإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط على ضوء تقلبات ومزايدات حزبية بين الديمقراطيين والجمهوريين في عام الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل، وانتخابات الكونجرس بمجلسيه، الشيوخ والنواب.
بالإضافة إلى ما تقدم من عوامل يبرز عامل آخر له أهميته الاستثنائية في هذه المرحلة الحرجة في الشرق الأوسط ألا وهو قدرة الدول العربية على فرض شروطها المستمدة من مبادرة السلام العربية لعام ٢٠٠٢ التي تنص بوضوح على أنه لا تطبيع في العلاقات مع إسرائيل إلا بعد قيام دولة فلسطين ذات السيادة في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ولعل أهم درس لعام ٢٠٢٣ هو ان السلام بالشروط الإسرائيلية والإملاءات الأمريكية لم يعد مقبولا كمدخل للسلام الشامل والعادل والدائم الذي من شأنه - دون غيره- أن ينهي الصراع العربي - الإسرائيلي.
لقد طرحت الدبلوماسية المصرية مجموعة من الأفكار والمقترحات الأولية في النصف الثاني من ديسمبر ٢٠٢٣ من واقع اتصالاتها مع جميع الأطراف المعنية، سميت باسم المقترح المصري، من أجل التوصل - على مراحل- إلى وقف إطلاق نار دائم في قطاع غزة، وهي بالطبع قابلة للتعديل بناء على اقتراحات الأطراف المعنية، وهي تتناول الهدن الإنسانية المتتالية في غزة، والإفراج عن الرهائن الإسرائيليين مقابل المعتقلين الفلسطينيين، ثم الاتفاق على وقف إطلاق نار مستدام. ولا شك في أن الترتيبات الأمنية في غزة وعمليات إعادة الأعمار وتمويلها ستكون من الموضوعات الخلافية الرئيسية خلال عام ٢٠٢٤. ومن المرتقب ان تقوم الدبلوماسية المصرية بمجهود رئيسي لبلورة رؤى وصيغ متفق عليها في هذا السياق.
وأخيراً وليس بآخر نترحم على شهداء فلسطين ويحيا الصمود الفلسطيني الباسل.
("الأهرام") المصرية