يظهر للوهلة الأولى أنّ بول ميلر هنا يتحدّث بلسان رأسمالية غير مُبالية لا بالمناخ ولا بالعدالة الاجتماعية، لكن هدفنا هنا في هذه المقالة، التفاعل مع نقده لاقتصاد الاستدامة المناخية الأممية والأوروبية الغربية الحالية، ولكن من زاوية عربية، عبر اقتراح نموذج اقتصادي لاستدامة مناخية عربية بديلة معتدلة تكون في خدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية والإنسان في المنطقة العربية وفيما أبعد منها، أي خدمة العمل المناخي كذلك.
يمكن تلخيص أهداف أجندة اقتصاد الاستدامة الأوروبية والأممية الحالية في ثلاثة أساسية: مناخية ومجتمعية وحوكمية، تسعى إلى التخلي عن الطاقات الأحفورية في آفاق 2030، والتركيز على المسؤولية المجتمعية للشركات بحيث تحترم التنوع الإثني والعرقي والجندري، وتكون حكامتها قائمة على أصحاب المصلحة وليس على المساهمين والزبائن وحسب.
ظهرت أجندة الاستدامة في أدبيات الأمم المتحدة سنة 2005 من خلال دعوة الشركات إلى الاستثمار المسؤول بيئيًا واجتماعيًا، ومع الأزمة المالية سنة 2008 تجدّدت الدعوى إلى تبنّي مقاربة جديدة للرأسمالية، ومنذ سنوات، مع أزمة "كوفيد 19"، ظهر شعار نحو رأسمالية أفضل أكثر استدامة واستيعابية تحت شعار إعادة الانطلاق العظيمThe Great Reset . ويُعتبر الاتحاد الأوروبي المنظمة الأكثر إنتاجًا للوثائق والتشريعات ذات أجندة الاستدامة المناخية حيث تمّ إقرار الصفقة الخضراء - Green Deal (2020)، وقانون المناخ الأوروبي - European Climate Law (2021)، وتشريع الاستدامة المالية.
المنظور النقدي المتريّث يفرض علينا أن نتأمّل في النتائج غير المتوقعة والمشكلات التي يؤدي إليها تنفيذ الأهداف المثالية
أمّا في الولايات المتحدة الأمريكية، فيظهر الالتزام بتنفيذ أجندة الاستدامة خاصّة في ولاية كاليفورنيا الرائدة في هذا المجال من خلال إقرار تشريعات تفرض إصدار تقارير دورية عن انبعاثات الكربون وقرارات بحظر بيع الشاحنات الجديدة التي تستخدم الوقود الأحفوري وفرض استخدام الطاقة الشمسية على المنازل الجديدة.
تبدو التشريعات الدولية الأممية والأوروبية والأمريكية من خلال تبنيها الأجندة المناخية والمجتمعية كما لو كانت تسعى لتحقيق أهداف في صالح التنمية المستدامة، لكن المنظور النقدي المتريّث يفرض علينا ألّا نرى الأهداف المعلنة والمتوقعة وحسب، مهما كانت مثالية فاضلة، بل أن نتأمّل في النتائج غير المتوقعة والمشكلات التي يؤدي إليها تنفيذ هذه الأهداف المثالية، والتي غالبًا ما تكون غير متوقعة ومخفية وتؤدي إلى آثار سلبية على الجميع وخاصة على الذين تسعى لخدمتهم.
يطرح إدخال الاستدامة المناخية والمجتمعية في الكثير من القطاعات العديد من التحديات والقلاقل، ففي قطاع المال والأعمال مثلًا، يتطلّب ذلك فرض استخدام الطاقات المتجددة بدلًا من الطاقات الأحفورية، وقد أدّى هذا في الواقع إلى رفع تكاليف كل شيء بالنسبة للشركات من الكهرباء، السيارات، الغذاء وسلع أخرى، حيث إنّ المنتجين سيكون عليهم استخدام المزيد من المدخلات والعمليات المكلفة أكثر بسبب الخضوع للمعايير التي تتطلّب استخدام أساليب أقلّ نجاعة في توليد الطاقة مما يرفع التكاليف، وهذه مشكلة كبيرة تبزغ عند تطبيق الأجندة المتطلبة المناخية، وفي الأخير ترتفع أسعار السلع والخدمات بالنسبة للمستهلك النهائي.
تطبيق أجندة الاستدامة المناخية الراديكالية سيقيّد التنافسية في الأسواق ويجعلها أكثر تمركزية
كما أنّ تطبيق معايير الاستدامة المناخية يفرض على الشركات القيام بسلوكات ذات مخاطر عالية كتطبيق طرق غير مختبرة، مثل الاعتماد الكلّي على شبكة الكهرباء في كل شيء (النقل، التدفئة، والتبريد وغيرها) ويؤدي ذلك إلى أزمات لا حصر لها، من قبيل أزمة الكهرباء في أوروبا بفعل الحرب الروسية - الأوكرانية، أو أزمة الكهرباء في بنغلادش.
كما أنّ تطبيق أجندة الاستدامة المناخية الراديكالية سيقيّد التنافسية في الأسواق ويجعلها أكثر تمركزية حيث سيُصبح من الصعب على الشركات الصغيرة والناشئة دخول الأسواق والبقاء في عالم الأعمال الذي أصبح يتطلّب معايير جديدة مكلفة أكثر. ولهذا السبب ستنفق بعض الشركات المزيد من الموارد على أنشطة الضغط من أجل الحصول من المشرّعين على قواعد مناسبة لمصلحتها ومعاملات تفضيلية وتمييزية في مصلحتها عوض إنفاق تلك الموارد على خدمة الزبائن وخفض الأسعار لهم، وفي الأخير سيدفع المواطن والمستهلك تكاليف هذه الأنشطة من خلال الأسعار والضرائب المرتفعة.
وبالنظر إلى النتائج غير المتوقعة والمشكلات التي وقعت نتيجة تطبيق معايير أجندة الاستدامة في طبعتها الأوروبية المتشددة، بدأ العالم يعرف بعض التحركات المضادة والمقاومة، لوقف تطبيق أجندة الاستدامة المتطرفة. ففي تكساس الامريكية مثلًا، أصدر المشرعون هناك قانونًا يحظر على شركات التأمين رفع تكلفة التأمين نتيجة احتساب معايير الاستدامة، كما حظر المشرعون عدم تمويل المؤسّسات المالية للشركات التي تستخدم الطاقة الأحفورية بحجّة عدم احترامها للاستدامة، كما ظهر أنّ فرض معايير الاستدامة المالية من شأنه أن يؤدي إلى رفع تكاليف التمويل والاستثمار في صناديق التقاعد بسبب مقاطعة مؤسّسات التمويل لشركات النفط والغاز.
شهدت سنة 2022 و2023 تباطؤًا في تنفيذ أجندة الاستدامة المتطرفة في الولايات المتحدة حيث شهدنا تحركات مالية في هذا الاتجاه تمثّلت في انخفاض الاستثمارات المستدامة، ومزيدًا من القادة الماليين، مثل لاري فنك (Larry Fink)، الذين بدأوا يأخذون مسافة ويبعدون أنفسهم عن الالتزام بهذه الأجندة ذات المفعول المحدود والتكلفة المرتفعة.
وفي خطوة قد تُسهم بمراجعة ألمانيا لالتزاماتها بمعايير الاستدامة البيئية، قضت المحكمة العليا الألمانية في 15 نوفمبر/تشرين الثاني 2023 بأنّ قرار الحكومة تمويل تحوُّلها الأخضر عبر إعادة تخصيص 65 مليار دولار من الديون غير المُستخدمة؛ المُخصَّصة خلال جائحة "كوفيد 19"، هو قرار غير دستوري.
من الضروري منح الشركات حرية اختيار شكل الطاقة الفعالة، وإلغاء الامتيازات للشركات التي تستخدم الطاقات البديلة
ولقد كان "البريكيست" الذي مكّن المملكة المتحدة من الخروج من الاتحاد الأوروبي، خطوة لمقاومة القيود والتحلل من الالتزامات التي فرضتها البيروقراطية الأوروبية الضخمة الساهرة على احترام معايير الاستدامة نظرًا للقيود التي تفرضها على المنتجين والتجارة في بريطانيا، والتي أدت إلى رفع أسعار السلع والخدمات.
وفي الأخير، بعد أن بدأ العالم يشهد تحركات ضد قيود الاستدامة المناخية والمجتمعية المتشدّدة بسبب ارتفاع تكاليفها على المواطن دافع الضريبية والمستهلك للسلع والخدمات، وبسبب مخاطر حدوث أزمات غير متوقعة، فإنّنا هنا في المنطقة العربية، مطلوب منا تبنّي مقاربة عربية للحد من التأثيرات السلبية لتطبيق أجندة استدامة راديكالية واقتراح نموذج استدامة بديلة معتدلة.
علينا العودة إلى مقاربة اقتصادية تراعي تكاليف القرارات الحكومية مقارنةً بمنافعها في تقييم سياسات الاستدامة، كما أصبح من الضروري أن نمنح الشركات حرية اختيار شكل الطاقة الفعالة الأقل تكلفة بالنسبة لها، وأن نُلغي الامتيازات الممنوحة للشركات التي تستخدم الطاقات البديلة عوض الطاقات الأحفورية لأنّه خيار مكلّف ويدفع المواطن تكاليفه ويحرم الشركات من المنافسة النزيهة ويتضمن مخاطر استثمارية واستهلاكية عالية.
يحتاج العالم العربي أن يُعزّز الحرية الاقتصادية الطاقية وألا يضع قيودًا على إنتاج الطاقات الأحفورية باسم تنويع الاقتصاد
يحتاج العالم العربي الذي ما زال بعيدًا عن هيمنة الأجندات الغربية الأوروبية للاستدامة المناخية، أن يُعزّز الحرية الاقتصادية الطاقية سواء للمنتجين أو المستهلكين، وألا يضع قيودًا على إنتاج الطاقات الأحفورية باسم تنويع الاقتصاد، بل بالعكس يجب أن يستمر العالم العربي في إنتاج النفط والغاز من أجل تعزيز تنويع الفرص الاقتصادية، ومن أجل مواجهة التغيّرات المناخية. فمواجهة آثار المناخ تتطلّب موارد اقتصادية ينبغي توفيرها من الاستثمار في الطاقات الأحفورية كما بيّنا ذلك في مقال سابق عن قمة المناخ كوب 28 التي انعقدت في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
إنّ فرض معايير أجندات الاستدامة المناخية في طبعتها الأوروبية الراديكالية على الشركات في العالم العربي، سوف يؤدى إلى التخلي عن إنتاج النفط والغاز الذي يحتاجه العالم الصاعد (الهند والصين) اليوم من أجل النمو ويحتاجه العرب خاصّة، من أجل رفع النمو وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتنويع الاقتصاديات العربية.
نحتاج عربيًا أيضًا إلى مواصلة النمو الاقتصادي وليس اتباع أجندات غربية تؤدي إلى وقف النمو، كما نحتاج إلى تلبية حاجات الجيل الحاضر وحاجيات أجيال المستقبل وليس اتباع سياسات تؤدي إلى التضحية بحاجات الجيل الحاضر وأجيال المستقبل على حد سواء.
(خاص "عروبة 22")