الحل عند الليبيين

تقدر شريحة كبيرة من الليبيين التحركات التي تقوم بها مصر حيال بلدهم، ويطلبون المزيد من المقاربات السياسية المباشرة أملا في وضع حد للأزمة، التي تزداد صعوبة مع تضارب التقديرات التي تتبناها قوى دولية وإقليمية تريد لهذه الدولة عدم مبارحة أزمتها، ومواصلة دورانها في حلقاتها السياسية والأمنية المفرغة.

بقدر ما يمثل هذا الاتجاه ارتياحا في القاهرة، غير أنه يتجاهل الدور الذي يمكن أن يلعبه الليبيون أنفسهم، خاصة أولئك الذين على اقتناع بأن أوراق ليبيا تحتكرها قوى متعددة تطرب للصيغة التي وصلت إليها الحالة الليبية من انسداد جميع آفاق التسوية الحقيقية. وتعتمد على إحداث توازن في معادلة، لا سلام مستقر أو حرب مدمرة.

يستطيع المتابع للأزمة أن يستشف بسهولة أن مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا عبدالله باتيلي يدور في فلك سابقه غسان سلامة ومساعدته ستيفاني وليامز، ويطبق منهجهما في إدارة الأزمة من خلال إطالة عمرها وإدخالها في دروب ودهاليز كي لا تنفجر تماما أو تصل إلى مستوى من الهدوء يؤدي إلى استقرار في مؤسسات الدولة، بالتالي القيام بجردة حسابات يمكن أن تعاقب قيادات ودولا مختلفة أسهمت بدور بارز في استمرار الأزمة، وتتعمد وضع مطبات وعراقيل تجعلها مستعصية على الحل.

أصبحت الأزمة الليبية أشبه بعملية سياسية يديرها مبعوثو الأمم المتحدة وكثير من سفراء الدول الغربية المعنيين بها. تحافظ على حد أدنى من الهدوء والغليان معا. وهي واحدة من التناقضات أو المعادلات الفجة، نجحت قوى كبرى في إدارتها، لكن لا أحد يضمن عدم انفلاتها المرحلة المقبلة، إذ تتطلب عملية تدوير جديدة في القيادات، حيث استنفد عدد كبير منهم أدوارهم وبات استمرارهم في السلطة أو بالقرب منها مكلفا، ما يستوجب تسخينا عسكريا وسياسيا يؤدي إلى طي صفحة وفتح أخرى بدلا منها.

يمكن أن يحدث غليان يحرك المياه الراكدة في ليبيا، غير أنه لن يؤدي إلى استقرار في هياكل الدولة، فالهزة المتوقع أن تستبدل بعض الوجوه لن تخرج عن النمطية التي أرستها هزات عنيفة سابقة وقعت عامي 2014 و2019، أوحت بأن هناك حراكا، بينما هو تقدم للخلف، لأن الحكومتين اللتين تشكلتا مسؤولتان عما حدث في عهدهما.

طرح باتيلي مبادرته الأخيرة وهو يعلم أن فرص نجاحها معدومة سياسيا، واختار لها مسمى إفريقي جذابا (الأفيال الخمسة)، وهم: رئيسا مجلسي النواب والدولة، ورئيس المجلس الرئاسي، والقائد العام للجيش، ورئيس حكومة الوحدة الوطنية (المنتهية ولايتها)، ولكل منهم تقريبا تحفظات على المبادرة كفيلة بأن تنسفها من جذورها، مع ذلك يصمم الرجل على المضي في طريقه ويعلم أن المستفيد الأول منها هو عبدالحميد الدبيبة، لأنها تمحنه وقتا إضافيا في سلطة، وكان يجب أن يغادرها منذ أكثر من عام.

لن يستقيم الوضع في ليبيا طالما افتقرت إلى مشروع سياسي وطني شامل، ينبع من أبنائها بمشاربهم المتعددة، يحدد خطوات العلاج بصورة مفصلة، لأن رهن مستقبل البلاد بما تريده القوى الأجنبية يعني عدم الوصول إلى حل، حيث تتبنى كل منها رؤية تخدم مصالحها فقط، وقد جرب الليبيون مبادرات عدة لم تفلح إحداها في عبور الأزمة، ومنها ما جرى طرحه لأجل تعميقها وقطع الطريق على مبادرة جادة من هنا أو هناك، ما يجعل وضع تصور ليبي البعيد عن المصالح الشخصية والفئوية والمناطقية مدخلا مناسبا للحديث عن معالجة موضوعية ومعتبرة، وفتح باب يمكن أن يقوض زحف بعض الخيارات الغامضة لرسم معالم الدولة.

يمهد المشروع الليبي الأجواء أمام إجراء الانتخابات، والتي ليست غرضا في حد ذاتها، فلا معنى لها في ظل استمرار وجود الميليشيات وقدرة قادتها على رفع السلاح في وجه مؤسسات الدولة وجهات تنفيذ القانون وحماية المواطنين، فالعبرة في تطبيق نتائج ومخرجات الانتخابات، ولذلك يجب أن يصب تفكير الليبيين والقوى الدولية والإقليمية الحريصة على إنهاء الأزمة في إزالة العقبات التي تعتريها والتخلص من شخصيات ومؤسسات تقف حائلا دون تسويتها.

فات أوان محاربة الجماعات المسلحة واقتلاعها من جذورها بعد أن وجدت حواضن سياسية لها في طرابلس، ورعتها حكومة الوحدة الوطنية المنتهية ولايتها، ولم تعد تشغل بال الكثير من القوى الغربية المتشدقة بالأمن ومحاربة الإرهاب، أو يتوقف عند مشاغباتها المبعوث الأممي الحالم بالسلام، لأن فتح هذا الملف ينكأ جراحا ويصيب رذاذه دولا تملك قوى عسكرية أو تدير شبكة مرتزقة على الأراضى الليبية.

يحتاج التعامل مع الميليشيات حكمة في هذه المرحلة، لأنها قوة تتجاوز أهميتها حصر دورها في المهام العسكرية بعد أن نسجت شبكة طويلة من المصالح المعقدة، وتحولت إلى أداة للسيطرة على بعض مفاصل الدولة الليبية، والتغاضي عن أشكال متباينة من الفساد المستشري، ويحتمى بها عدد كبير من المسؤولين في العاصمة طرابلس.

تكمن الحكمة في استيعاب جزء منها في إطار مؤسساتي عسكري، وجزء آخر في إطار مدني أو تسريح بإحسان، فعدم التعامل برشادة كاملة مع هذا الملف قد يكون كفيلا بنسف أي جهود حقيقية لتفكيك تعقيدات الأزمة الليبية.

يمتد المشروع الوطني الليبي إلى البعد الاقتصادي، ويجب ألا يقتصر على البعدين السياسي والأمني فقط، فلا تزال الثروة الليبية بعيدة عن متناول عموم الشعب الليبي، وتتمتع نسبة محدودة من المواطنين بجزء منها، وتكاد تكون المشروعات التنموية غائبة عن معظم الأقاليم، وقد أجهض استمرار الصراعات الكثير من الإصلاحات الاقتصادية الكفيلة بأن تنقل ليبيا نقلة حضارية كبيرة في المستقبل. ما يعني أن أول بذور الحل يجب أن يأتي من عند الليبيين.

("الأهرام") المصرية

يتم التصفح الآن