تعتبر مبادرة السلام العربية؛ التي أطلقتها القمة العربية المنعقدة في بيروت عام 2002م، في منتهى التسامح والمسالمة والواقعية، وقد اعتبرها كذلك كل المنصفين في العالم، بمن فيهم بعض اليهود والمتصهينين. ورغم هذا، فقد رفضتها حكومة إسرائيل في اليوم التالي لصدورها.. وقبل أن يجف الحبر الذي كتبت به، ولم تكتف بالرفض، بل اجتاحت قواتها، عندئذ، الضفة الغربية، وأعملت فيها -كالعادة- قتلاً في أبناء الشعب الفلسطيني الأعزل، وتدميراً لما تبقى لديهم من منشآت ومرافق ومنازل (مذبحة جنين).. في استهزاء صارخ بهذه المبادرة، وبكل القيم والشيم الإنسانية النبيلة.
وبالطبع، فإن هذا الكيان الصهيوني «يستقوي» بأسياده المستعمرين الغربيين.. وهؤلاء يمالئون هذا الظلم، ويدعمونه؛ وهم الذين يهيمنون -مع الأسف- على معظم السياسة الدولية الراهنة. ولقد وضح أن هذا الكيان الصهيوني الغاصب لا يفهم إلا لغة واحدة؛ هي لغة (القوة)، بكل معانيها وعناصرها. لذلك، فإنه لا يعرف قيم التسامح والمسالمة والنوايا الحسنة، والحلول الوسط، ناهيك عن مبادئ الحرية والعدالة والمساواة، لكل البشر، بدليل هذه المذابح التي يرتكبها، على مدار الأيام، وبإصرار عجيب على القتل والتدمير، وإبادة أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين؟!
وهذه الخصيصة بدا يتجاهلها بعض العرب، إما عن قصد، أو خبث، ومآرب آنية خاصة، أو غباء. فإن سلمنا بأن مبادرة السلام العربية هي أقصى ما يمكن للعرب أن يقدموه مقابل تنازل عن حقوقهم في أغلب فلسطين، وأنها -أي هذه المبادرة- تمثل الحد الأدنى (الذي لا مبرر للمساومة عليه، ولا يجوز إنقاصه أكثر) إن اتفق على ذلك، فان الكرة تكون قد أصبحت في ملعب الصهاينة وأنصارهم.. إن أرادوا سلاماً (مقبولاً) فالباب مفتوح، وإن لم يريدوا ذلك -كما تؤكد الدلائل- فليشهد العالم أن ذلك الكيان يدفع الطرف الآخر -دفعاً- نحو المقاومة المشروعة لأطماعه، وبكل الطرق الممكنة.
الواقع يؤكد أن: إسرائيل لن تقبل هذه المبادرة العربية الكريمة، أو غيرها، إلا إذا أجبرت على ذلك بشتى طرق المقاومة الممكنة. أما إن لم تجبر، فإنها ستعود إلى أساليب: تاجر البندقية، وكوهين، وشارون ونتنياهو، وغيرهم، المعروفة. ولا يمكن أن نتوقع ممن أنشأوا إسرائيل أن يضغطوا عليها كي تقبل إرادة معظم العالم، وقانونه الدولي. إن (الحل) مع هذا التحدي المصيري -بالنسبة للعرب- يكمن في: استخدام ما تبقى بيد العرب من (أوراق) أو -بمعنى آخر- في «القوة»، بكل معانيها، وليس في القوة العسكرية وحسب. وتتوفر معظم عناصر القوة هذه للعالم العربي، وبمقادير لا بأس بها.. ولا ينقص معظم دوله إلا (السياسات) الحكيمة، والإدارات الرشيدة؛ التي تعمل على خدمة الصالح العام، واستغلال وتنمية قدرات الدول، لأقصى حد ممكن، ثم الاتحاد (أو التضامن)؛ لتحقيق الأهداف الجماعية العليا.
لا يمكن زحزحة إسرائيل عن تعنتها، وفرض الحل العادل، الذي تتضمنه مبادرة السلام العربية والدولية، إلا عبر الضغط الدولي، وما يمكن اعتباره «أضعف الإيمان».. من ضغط سياسي عربي على الكيان الصهيوني، من ناحيتين، هما:
1- دعم المقاومة المدنية الفلسطينية ضد إسرائيل، بأنواعها المعروفة التي أثبت التاريخ السياسي نجاعتها.... على يد كثير من القادة السياسيين، أمثال: مهاتما غاندي، مارتن لوثر كينج، نيلسون مانديلا... إلخ.
2- المقاطعة العربية الجادة والحازمة، وتنفيذ قرارات القمم العربية بعدم (تطبيع) أي دولة عربية العلاقات مع إسرائيل، إلا بعد استجابة الأخيرة لمتطلبات السلام المعروفة، والمتفق عليها دولياً.
إن المقاطعة العربية الجادة والشاملة لإسرائيل هي (أو هكذا يفترض) من أمضى الأسلحة ضد هذا الكيان الإجرامي، وضد عربدته المستفزة للمشاعر الإنسانية الخيرة.
إن من المستوجب الآن أن يتعهد كل العرب بالمقاطعة الكاملة لإسرائيل، ومن يدعمها، ما لم تستجب لمطالب السلام العادل والمقبول؛ التي جاءت بها مبادرة السلام العربية؛ وهي المبادرة المعتمدة أصلاً على نصوص معروفة للشرعية الدولية؛ ممثلة في قرارات «الأمم المتحدة»، وغيرها.. هذه المقاطعة هي التي سترغم إسرائيل على قبول هذه المبادرة.. ومن ثم الجنوح للسلم، وإنهاء هذا الصراع، وقيام السلام المنشود. والجدية فيها ستدفع المجتمع الدولي للعمل على التدخل لإنهاء هذا العدوان. أما التهاون العربي فسيؤدي إلى العكس. المقاطعة هي «الورقة» الأخيرة والأكثر حسماً، في يد العرب، تجاه العدوان الصهيوني. وإن فرط العرب فيها، فلن تقدم إسرائيل شيئاً، بل ستتمادى في غيها، وتوسعها، وتحصل على ما تريد دون مقابل.
وإذا استثنينا من المقاطعة (مرحلياً، ولأسباب سياسية واضحة) كلاً من: مصر وفلسطين (السلطة الفلسطينية) وربما الأردن، فإن على بقية الدول العربية والإسلامية أن تقطع كل صلة لها بالكيان الصهيوني، حتى يقبل مستحقات السلام. من هنا، تصبح إقامة صلات -ناهيك عن علاقات- من قبل أي طرف عربي مع إسرائيل، قبل رضوخ الأخيرة لمتطلبات السلام، متاجرة بالحقوق العربية، وتنازلاً فجاً، لا مبرر شريفاً له، بل جريمة في حق الأمة، والأمن والسلام الحقيقيين، في المنطقة.. خاصة إذا استذكرنا أن الخطر الصهيوني يهدد كل الأمة، ولا تقتصر أطماعه على فلسطين وحسب.
وإن من يقدم على هكذا تحرك (من الدول العربية والإسلامية) إنما يشارك الكيان الصهيوني في جرمه، في حق الفلسطينيين والعرب، وفى حق مبادئ الحرية والعدالة والمساواة. ويتضاعف هذا الجرم عندما يبرر من يقدم على هذه الخطوة -من العرب والمسلمين- تحركه هذا، بأنه «لخدمة القضية الفلسطينية».... فهذا يعتبر أسخف «مبرر» في هذا الشأن. إذ كيف تحسب خيانة القضية بأنها «خدمة» لها ؟!! ويقتصر (التطبيع) العربي مع إسرائيل، على العلاقات الحكومية. أما معظم الشعوب العربية، فيبدو أن من المستحيل «قبولها» بالكيان الصهيوني، كما هو. فهل يشرع العرب بالفعل، وبجدية وصدق، في هذه المرحلة البائسة من تاريخهم، في القيام بما يقتضيه «أضعف الإيمان»، دون خوف أو وجل، حفظاً للأمة، وحماية لأنفسهم، وأجيالهم القادمة؟!
ما زالت الأمة بخير، وما زالت قادرة على مقاطعة / مكافحة أبشع صور الظلم والعدوان في هذا العصر.
("عكاظ") السعودية