قضايا العرب

"الحارة" وازدواجية الأخلاق: صورة مصغّرة للمجتمع العربي

جولة مثيرة قامت بها منصّة "نتفليكس" داخل الأزقة الضيقة للعاصمة الأردنية عمان، وجوه منهكة، بيوت بسيطة، وشوارع مهترئة، كأنّها تذكرنا بأحياء "كازابلانكا" الغارقة في التهميش.

طرح عرض الفيلم الأردني "الحارة" على المنصة نفسها جدلًا خافتًا لدى المشاهد العربي سنة 2020، فبين مؤيّد لطرح المآسي الاجتماعية والازدواجية الفكرية، وتقديم الحقيقة عارية كما هي، وبين معارض للأجندة الغربية التي تُصرّ على تشويه صورة العرب والمسلمين، نقف كمشاهدين ومتتبّعين على سطح البناية إلى جانب البطل صبري، لنتأمّل المدى العربي اللامتناهي، يحث تبدو كلّ الأماكن أنيقة وساحرة لحظة تأمّلها من الأعلى، لكن تلك الحارة، تمثّل في الواقع، صورة مصغرة للمجتمع العربي بكل تناقضاته الفكرية وصراعاته الثقافية وازدواجيته الأخلاقية.

يكشف الفيلم واقعًا مأساويًا لحيّ شعبي يعيش معظم سكانه تحت عتبة الإنسانية، حيث كلّ شيء مباحٌ في الحارة باستثناء الحب، نرافق علي في رحلة بحثه عن الخلاص من عثرات الفقر وعبء التقاليد، لكنه يقف عاجزًا عن تحقيق أبسط أحلامه، فيلجأ للتحايل على واقعه القاتم، ليصنع لنفسه شخصية خيالية يهديها لأمّه وجدّه، ويُخرِس بها أصوات الحاقدين من أبناء الحارة، إلى درجة أنّه يقدم نفسه كموظف مرموق في شركة أجنبية وهمية.

ترفض والدة لانا علاقة ابنتها بعلي، تخشى أسيل تكرار مأساتها وفشلها في الحب والزواج، فهي المراهقة الساذجة التي تحدت رغبة عائلتها وفرّت مع عشيقها، لينتهي بها الأمر أمًّا مطلّقة من شبح رجل سكير. "الحبّ وحده لا يكفي"، هكذا خاطبت أسيل ابنتها في محاولة لإقناعها بصرف النظر عن أهواء القلب.

يرصد الفيلم عبر شخصياته الرئيسية، ازدواجية أخلاقية في التعامل مع مفهوم الشرف، حيث يساوي عباس، زعيم عصابة للدعارة والمخدرات، بين التجارة في أجساد المراهقات بالملاهي الليلية الرخيصة، وبين علاقة حبّ سرّية تجمع حبيبين. فكلاهما في نظره خطيئة تجلب العار.

نرى أيضًا كيف انهار عالم أسيل حين تعرّضت للابتزاز والتهديد بنشر مقاطع فيديو تظهر لانا وعلي في أوضاع حميمية، شعرت بالرّعب من الوصم الاجتماعي الذي قد يلاحق عائلتها، وفي المقابل، نجد أسيل نفسها تستخدم جسد ابنتها لإغواء المبتز والإيقاع به.

مفارقات أخلاقية عديدة تضعنا أمام حقيقة رهيبة، حيث يتشبّث أهل الحارة بالاستقامة والنزاهة علنًا، ويمارسون كل أنواع الرذيلة سرًا، يُطبّعون مع الفقر والتسلّط والفساد السياسي وانعدام الضمير، لكن تثور ثائرتهم بسبب قبلة خاطفة بين عشيقين.

نجح الفيلم في تقديم صورة خام لواقع شريحة اجتماعية عريضة غارقة في البؤس والضياع، وهذا نجاح ساهم فيه تألّق مجموعة من نجوم الأردن وفلسطين، حيث أبدعت ميساء عبد الهادي بطلة "الملاك" و"غزة مونامور" في لعب شخصية فتاة الليل ذات البعد الدرامي المركّب، إلى جانب تألّق نديرة عمران الممثّلة المخضرمة في أداء دور أسيل، الأمّ المنهكة ذات الملامح الجامدة.

يُعتبر فيلم "الحارة" أولّ محاولة تأليف وإخراج للمخرج الأردني باسل الغندور الذي سبق وشارك في كتابة الفيلم التاريخي "ذيب" الحائز على جائزة "بافتا" عام 2016.

مؤكّد امتداد رقعة الازدواجية الأخلاقية هذه، وما ينتج عنها من مآسي إنسانية من المحيط إلى الخليج العربي لأنّه حين يتعلّق الأمر بشرف القبيلة، تتبخّر كل الاستثناءات وتُمحى كل الاختلافات بين شعوب المنطقة، بشكل أو بآخر. صحيح أيضًا أنّ العديد من الدول العربية قد قطعت أشواطًا حقوقية كبيرة في إنصاف النساء، لكن شبح التمييز لا زال يُرخي بظلاله فوق سماء المرأة العربية.

شهدنا قضايا إنسانية مؤلمة لنساء كنّ ضحايا لقوانين قروسطية ظالمة، ولا زالت قضية الطفلة المغربية أمينة الفيلاليّ نموذجًا سيئًا في هذا الملف، ودليل إدانة على ازدواجية المواقف اتجاه مفهوم الشرف. أيّ شرف في تقديم الضحية قربانًا لمغتصبها حتى تغتسل القبيلة من العار؟.

نتذكّر أيضًا الهجوم العنيف الذي تعرّضت له مجموعة من المتظاهرات المصريات خلال أحداث يناير/كانون الثاني 2011، والذي أطلق عليه فيما بعد "أحدات فتيات مجلس النواب"، حيث لم تكتفِ السلطة الأبوية بسَحل النساء وتجريدهن من ملابسهن في الشوارع العامة، بل تمّ نصب ما يُشبه "المشانق الأخلاقية" لهؤلاء النسوة من طرف حرّاس المعبد، ولومهنّ على الاعتداء الجسدي الذي تعرّضن له، من خلال العبارة التحقيرية الشهيرة آنذاك: "إيه اللي ودّاها هناك".

نموذج آخر للعنف الرمزي والجسدي ضد النساء، طرحته قضية مقتل الشابة الفلسطينية إسراء غريب، والتي قدّمت حياتها قربانًا على مذبح جرائم الشرف. قد تُفرّق جغرافيا الأرض بين النساء العربيات، لكن يجمعهن القهر الاجتماعي.

نتساءل اليوم وبحرقة شديدة، إلى متى ستظل النساء تحت رحمة قوانين متجاوزة تستمد شرعيتها من أعراف القبيلة؟ وإلى متى سيستمر التحايل وإيجاد مسوّغات قانونية تبرّر اختطاف الطفلات من مقاعد الدراسة والزّج بهن في سجون الزوجية؟ وإلى متى سيستمر الاضطهاد الاجتماعي ضدّ النساء بناءً على طول أو قصر تنوراتهن؟ ألا نملك الشجاعة الأخلاقية الكافية لتغيير حال "الحارة" دون انتظار وقوع كوارث اجتماعية أخرى تحصد المزيد من الضحايا؟.

أسئلة مفتوحة مرّة أخرى، تنتظر من يتأمّلها أولًا قبل الاشتغال على أجوبة نافعة ثانيًا، في حقبة تتميّز بإرث أخلاقي يكاد يكون مشوّهًا، مُثقلًا بالتمييز والظلم والتهميش والعنف.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن