لم يأتِ هذا الشعار من فراغ، ولم يولد فجأة، وإنما كان محصّلة لعقود من النضال الفلسطيني ومن المعاناة ومن عشرات المجازر والممارسات والجرائم التي ارتكبها الكيان الصهيوني، كما أنه نتاج لجهود "الناشطين" في الغرب خصوصًا وفي أنحاء العالم عمومًا من مؤيدي القضية الفلسطينية، ونتاج لتأصيل فكري حول المأساة أو "النكبة" الفلسطينية، تصدى له مفكرون كبار طرحوا عشرات الأسئلة والأجوبة حول طبيعة القضية وطبيعة الكيان الصهيوني وتوصيفه، وجهود منظمات مدنية وغير حكومية وحقوقية نشطت في الشأن الفلسطيني واستوعبت مجريات القضية.
على أنه لا بد من التأكيد أنّ معركة "طوفان الأقصى" وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها الاحتلال الصهيوني في غزّة وجرائمه في الضفة الغربية قد أدت إلى إكساب هذا الشعار شعبية واسعة، ونقل الوعي بالقضية الفلسطينية إلى أبعاد لم تكن مُتخيّلة إلى وقت قريب.
والحاصل أنّ ما جرى ويجري في الوعي الشعبي الجمعي في أنحاء العالم لم يكن مجرد ترديد شعار، وإنما إسقاط للسردية الصهيونية حول طبيعة الصراع وتجاوز حدود التعقيد الذي جرى تكريسه خاصة في الذهنية الغربية حول حق "اليهود" في أرض فلسطين وأنها "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" هو الشعب "اليهودي" الذي يمتلك فيها حقًا تاريخيًا وما ترتب على ذلك من مفاهيم مثل "حق إسرائيل في الوجود"، و"حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، و"إسرائيل واحة ديمقراطية في شرق أوسط متخلّف ومعادٍ وهمجي"، و"الإرهاب الفلسطيني"، وهو ما انعكس في تصوّر الحل الذي لم يفارق في أفضل الأحوال تصوّر "حلّ الدولتين" القائم على أنّ هناك "أراضي" فلسطينية محتلة عام ١٩٦٧ متنازع عليها مع "إسرائيل" وأنّ أيّ حلّ يجب أن يضمن لـ"إسرائيل الأمن والبقاء"، بكل مترتبات ذلك، ولهذا كانت كل الحلول حتى "النظرية" أو "الافتراضية" تُكرّس السردية الصهيونية وتأتي على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة غير القابلة للتصرف، بما فيها حق العودة للاجئين المقرر بموجب القرارات الدولية التي يجري الاستناد إليها في موضوع "حلّ الدولتين".
الشعب الفلسطيني رغم جرائم الإبادة والتهجير لم يتحوّل إلى "هنود حمر" أو أقلية مستسلِمة في منعزلات خاصة
والشاهد أنّ فكرة القبول بإسرائيل كأمر واقع وفق السردية الصهيونية، أو حتى بتجاوز كل معايير الدولة الديمقراطية المعاصرة في الفكر الإنساني وخاصة تلك التي ادعاها الغرب والقبول بها باعتبارها "دولة يهودية" قد تم الترويج له وتغطيته بادعاء الحرص على الحق الفلسطيني عبر "حلّ الدولتين" والمقصود به "دولة يهودية" و"دولة فلسطينية"، حتى أصبح "حلّ الدولتين" هو الشعار أو المطلب الذي يرفعه الجميع بما في ذلك غالبية العرب والفلسطينيين وغابت أي طروحات تُقدّم مقاربة مختلفة أو سردية مختلفة، رغم بقاء أصوات وجماعات خارج نطاق السائد في طروحاتها وفي توصيفها للحل، ويأتي في مقدمة هؤلاء الناشطين في الشأن الفلسطيني والمراقبين لتطورات الصراع والممارسات والارتكابات الصهيونية، الذين نجحوا الآن بفعل ما جرى ويجري في غزّة وفلسطين المحتلة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول في تقديم السردية الحقيقية للصراع باعتباره استعمارًا استيطانيًا أقام نظامًا عنصريًا في فلسطين وأنّ الحل هو دولة ديمقراطية متعدّدة القوميات لكل السكان، وفي المقدمة السكان الفلسطينيون بمن فيهم اللاجئون.
ما جرى ويجري في فلسطين المحتلة أسقط حتى تلك المقاربة الافتراضية التي كانت تعترف بالطبيعة الاستيطانية الاستعمارية للكيان الصهيوني الذي قام على أراضي فلسطين وحقوق شعبها، وتُشبّهه بالاستعمار الاستيطاني الاحتلالي في أمريكا أو في أستراليا يمكن دراسته كتاريخ ولكن لا يمكن التعامل معه كمشكلة قائمة، ولكن الشعب الفلسطيني رغم جرائم الإبادة والتهجير لم يتحوّل إلى "هنود حمر" أو أقلية مستسلمة في منعزلات خاصة، بل إنّ هذا الشعب بأنواع المقاومة التي اجترحها وطوّرها بما في ذلك "سلاح الإنجاب" أثبت أنه شعب راسخ الجذور في انتمائه إلى أرضه وإلى الحضارة التي صنعها على هذه الأرض الممتدة إلى آلاف السنوات.
الصهاينة لن يتحمّلوا حتى سلطة وظيفية شبيهة بـ"أوسلو"، وإنما شبيهة بما وصلت إليه "سلطة أوسلو" وربما أقل
ومن ثم فإنّ المقاربة التي فرضت نفسها كانت مقاربة جنوب أفريقيا، "استعمار استيطاني أقام نظامًا عنصريًا يتوجب تفكيكه بحلّ ديمقراطي وليس بحلّ عنصري قائم على دولتين تهيمن فيها الدولة العنصرية على الدولة الأخرى المقترحة وهي الدولة الفلسطينية".
ومن هنا تأتي أهمية الشعار المرفوع بهذه المرحلة في ميادين وساحات التظاهر "فلسطين حرّة من النهر إلى البحر". صحيح أنّ هذ الشعار لا يزال شعارًا شعبويًا مهما اتسعت رقعة من يرفعه، وأنه لا يُعبّر عن رأي أو قناعة النخب الحاكمة صاحبة القرار، ليس فقط في الغرب ولكن في أنحاء العالم بما فيها النظم العربية والقيادة الفلسطينية، ومن ثم فإنّ طرحه يصبح طرحًا غير واقعي ولا سياسي.
لكن بالمقابل لا بد من التذكير أنّ الصراع العربي الصهيوني صراع ممتد وطويل وهو صراع وجود وليس صراع حدود، ليس بمنطق العرب فقط ولكن بمنطق الصهاينة أيضًا، ومن ثم فإنّ حلّ "الدولتين" هو أيضًا حلّ غير واقعي، رغم أنه يمتلك تأييدًا سياسيًا واسعًا من دول العالم، ولكن لن يقبل به الصهاينة عمليًا ولن يتحمّلوا حتى سلطة وظيفية شبيهة بـ"أوسلو" كما كانت في الاتفاق، وإنما شبيهة بما وصلت إليه "سلطة أوسلو"، وربما أقل.
إبراز الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية العنصرية للكيان الصهيوني سيجعل من الحلّ الديمقراطي البديل الواقعي
إسرائيل تريد دولة فلسطينية دون فلسطينيين أحرار وهذه هي المعضلة، كما أنّ المعضلة الأكبر أنّ حلّ "الدولتين" بقدر ما يُكرّس إسرائيل كدولة "يهودية "عنصرية بقدر ما يبقي المشكلة قائمة بالنسبة لمواطني الداخل في الأراضي المحتلة عام 1948 وبالنسبة للاجئين، كما أنّ هذه الدولة العنصرية لن تكون دولة طبيعية قابلة للعيش والتعايش مع محيطها وبالذات محيطها الفلسطيني، وستفرض مزيدًا من قوانين العزل والفصل مع الفلسطينيين في الدولة الفلسطينية إن قامت وفي الداخل والخارج، وهذا سيُبقي الصراع قائمًا.
لقد حان الوقت للاستفادة من مفاعيل السابع من أكتوبر/تشرين الأول والانتقال لطرح شعار "فلسطين حرّة من النهر إلى البحر"، وبقدر ما تجاوز من يرفع الشعار الآن محظورات مثل "معاداة السامية" و"إنهاء إسرائيل" لتقديم حلّ الدولة الديمقراطية متعددة القوميات التي يتعايش فيها العرب واليهود، فإنّ إبراز الطبيعة الاستعمارية الاستيطانية العنصرية للكيان الصهيوني وإسقاط سرديته عن الصراع كما يحدث الآن، وهي الطبيعية التي تجعل وجود هذا الكيان يُشكّل مشكلة للعالم كلّه وليس فقط للفلسطينيين والعرب والمنطقة، سيجعل من الحلّ الديمقراطي البديل الممكن والواقعي على المدى الطويل.
.. وللحديث بقية.
(خاص "عروبة 22")