صحافة

إسرائيل في "اليوم التالي"

نصر محمد عارف

المشاركة
إسرائيل في

انشغل قادة الأحزاب اليمينية العنصرية المتطرفة في إسرائيل بالتخطيط لليوم التالي في غزة، وتناسوا تماما عن قصد، او عن غير قصد اثارة السؤال عن اليوم التالي في إسرائيل. والحديث عن اليوم التالي مستعار من الفيلم الأمريكي The Day After، الذي عرض لأول مرة في 1983، والذي يتناول حالة أمريكا والعالم في اليوم الذي يأتي بعد استخدام الأسلحة النووية بين أمريكا وأعدائها. وفي وقت عرض هذا الفيلم كنت طالبا في السنة النهائية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وقد اصطحب دفعة العلوم السياسية استاذنا الدكتور عبد المنعم المشاط الى المركز الثقافي الأمريكي المجاور للسفارة الامريكية في القاهرة، وعرضوا لنا الفيلم عرضا خاصاً قبل أن يتم التصريح بخروجه للعرض خارج الولايات المتحدة.

الحديث عن اليوم التالي في غزة من قبل القيادة الإسرائيلية يفترض ان تلك القيادة حققت نصرا حاسما، واستطاعت القضاء على حماس بصورة تجعل من غزة منطقة فارغة من أي وجود مؤثر، أو ذي قيمة من السلطة الفلسطينية، أو من حماس، أو من باقي حركات التحرر الوطني الفلسطينية. وهذا في حد ذاته افتراض متخيل من قبل قيادة لم تحقق الحسم في أي منطقة من مناطق غزة، التي تم تدميرها بقوة نيران تفوق الأسلحة النووية. ولكن لكل طرف في أي معركة ان يفترض النصر الحاسم، ويتوقعه، ويعمل على تحقيقه، ويخطط لما يأتي بعده، ولذلك لن نناقش هذا الامر، وإنما سوف نركز على اليوم التالي في إسرائيل ذاتها. ذلك اليوم الذي لم يتكلم عنه أحد داخل إسرائيل، او خارجها بصورة جادة وعميقة.

أولًا: إن اهم مقومات المجتمع الإسرائيلي الشعور العميق بالأمن؛ بكل معانيه، ذلك الشعور الذي افتقده الشعب اليهودي طوال تاريخه في أوروبا وأمريكا، حيث هناك دائما من يعتدي على بعض اليهود، أو يمارس التنمر، والتمييز، والسخرية والنقد، ولأول مرة يشعر المهاجرون من العالم الغربي الذين يشكلون النخب الاقتصادية والسياسية والثقافية في إسرائيل بالأمن في إسرائيل، هذا الشعور تغذيه الدولة بكل مؤسساتها الأمنية، والاستخبارية بصورة تزيل كل رواسب الماضي المؤلمة من عقول ونفوس شعبها. هذا الشعور تمت زلزلته بصورة جذرية في 7 أكتوبر الماضي، ولم يعد المواطن البسيط في إسرائيل يصدق فكرة الامن المطلق التي عاش يحلم بها. وهنا يكون السؤال ماذا ستفعل الدولة لإعادة ترسيخ مفهوم الأمن في نفوس شعبها بعد أن دمرت غزة تدميرا كاملا وقتلت عشرات الآلاف؟.

ثانيًا: تم تسويق فكرة المستوطنات في غلاف غزة وفي الضفة الغربية ـ وهي مستوطنات ومستعمرات، كيبوتز، مسلحة ـ على اعتبار أنها من أهم وسائل تحقيق الامن الوطني الإسرائيلي؛ من خلال محاصرة المجتمعات الفلسطينية في الضفة الغربية، وفي قطاع غزة بالمستوطنات؛ سواء في غلاف غزة الذي تم اقتطاعه من مساحة غزة التي قررتها الأمم المتحدة، وكذلك في الضفة الغربية تمت محاصرة المدن والقرى فيها بالمستوطنات؛ لتحويل حياة الفلسطينيين الى جحيم لا يطاق؛ فلا يفكرون في أي نوع من المقاومة او المواجهة مع إسرائيل، ويكون أقصى طموحاتهم العبور الى مزارعهم، أو الى القرى والمدن المجاورة. مفهوم المستوطنات والمستعمرات ذاته تحول الى مصدر لتهديد الامن، وليس وسيلة لحماية الأمن. فهل ستعيد القيادة الإسرائيلية التفكير في جدوى المستوطنات من الناحية الأمنية بعيدا عن فكرة سرقة الأرض، والتمدد الجغرافى للقضاء على الحلم الفلسطيني في دولة مستقلة؟.

ثالثاً: إن كل أطروحات اليمين المتطرف والعنصري في رفض حل الدولتين، وفي إمكانية الاستيلاء على الضفة والقطاع بعد إجبار السكان على الهجرة؛ من خلال الممارسات العنصرية المتمثلة في الاقتحامات المستمرة للمدن والقرى، وعنف المستوطنين، والحواجز، وجدار الفصل العنصري، والاعتقالات غير القانونية التي يطلق عليها الفاظا تجميلية فيسمونها الاعتقالات الإدارية. كل تلك السياسات التي مارسها اليمين المتطرف منذ أن تولى رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو رئاسة الوزراء لأول مرة في عام 1996 قد ثبت فشلها، ولم تحقق الامن، ولم تؤد الى التطهير العرقي، وتهجير الفلسطينيين بل أدت الى ظهور أجيال اكثر عنفا، وأقل رغبة في التعايش مع الدولة الإسرائيلية، ولذلك كان 7 أكتوبر نتيجة طبيعية لسياسات عنصرية عانت منها أجيال متتالية. فهل ستنجح الديمقراطية الإسرائيلية في أن تأتي بنخبة سياسية راغبة في تحقيق السلام والتعايش مع الجيران في اليوم التالي لنهاية الحرب في غزة؟.

رابعاً: ما هي الرسالة التي سوف يوجهها قادة إسرائيل للجيران العرب في اليوم التالي لنهاية الحرب في غزة؟ وهل سوف يعاودون تسويق إسرائيل كدولة ترغب في العيش في سلام، وتحترم القانون الدولي، وتراعي الاتفاقيات والمعاهدات، وتحترم المؤسسات الدولية، ويمكن الوثوق بها عند التعاقد معها في معاهدات سلام؟ هل سوف يقولون ان إسرائيل تحترم سيادة الدول الأخرى، وتراعي حرمة أراضيها؟ هل سيقولون ان إسرائيل حريصة على أن تكون دولة تنتمي للقرن الحادي والعشرين، وتؤمن برسالة سماوية؟ أظن أن هذا الخطاب سوف يحتاج الى أدلة تزيل من عقول الجماهير في الدول المجاورة، وفي مختلف انحاء العالم الممارسات التي تنتمي لعصور التوحش في القرون الوسطى في أوروبا، أو لشريعة الغاب في المجتمعات البدائية.

التحدي الذي يواجه إسرائيل في اليوم التالي بعد ان تظهر صورة غزة بكامل حقيقتها سيحتاج الى معجزة تعيد لإسرائيل وجهها الإنساني الذي حاولت تسويقه في الفترة الماضية.

("الأهرام") المصرية

يتم التصفح الآن