مثل هذا الالتزام بحصر المواجهة المسلّحة داخل فلسطين بشكل عام وداخل قطاع غزّة بشكل خاص، انعكس على مراعاة ما أُطلِق عليه قواعد الاشتباك، بمعنى أن يتساوى الفعل ورد الفعل على كل الجبهات، وفيما يخص الجبهة الشمالية تحديدًا فإنّ كل رشقة صواريخ من جانب "حزب الله" كانت تقابلها غارة إسرائيلية على مواقع للحزب في جنوب لبنان.
وعندما بدأَت المواجهة تنتقل إلى العراق والبحر الأحمر بدخول بعض فصائل "الحشد الشعبي" وجماعة "أنصار الله" على الخط، ظلّت سياسة الحفاظ على قواعد الاشتباك نفسها تحكم ردَ الفعل الأمريكي، فأغمَضت الولايات المتحدة عينيها أكثر من مرة عن استهداف قواعدها العسكرية في العراق وسوريا من داخل الأراضي العراقية، كما التزمَت ضبط النفس في مواجهة هجمات الحوثيين على الناقلات ذات الصلة بإسرائيل بشكلٍ أو بآخر.
تعظيم الشعور الداخلي بجسامة التهديد الذي يتعرّض له الأمن القومي الإسرائيلي عبر تسخين المواجهة على عدة جبهات
والآن، بعد أن دخلت الحرب على غزّة شهرها الرابع، ما زال الخطاب الإسرائيلي يؤكد على أنّ المعركة هي مع "حماس" وليست مع "حزب الله" أو مع أي طرف آخر، وما زال الخطاب السياسي الأمريكي يشدّد على احتواء العمليات العسكرية داخل حدود قطاع غزّة.
نعم مثل هذا الخطاب السياسي موجود وقائم، لكن العمليات الميدانية على أرض الواقع من الجانبين تتناقض كليًا مع الخطاب السياسي المُعلَن. وبالتحديد فإنّ استهداف صالح العاروري، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس"، في عمق الضاحية الجنوبية داخل العاصمة اللبنانية بيروت، وتنفيذ هجوم دموي في طهران على مقربة من قبر قاسم سليماني قائد فيلق القدس بالحرس الثوري الإيراني في الذكرى الرابعة لاغتياله، وما سبقه من عملية اغتيال رضي موسوي أحد أهم رفقاء سليماني في العاصمة السورية دمشق، كل تلك العمليات حملت تصعيدًا غير مسبوق في المواجهة مع محور المقاومة.
وفيما يبدو أنه انزياح للعمليات العسكرية الأمريكية في الاتجاه ذاته، قامت الولايات المتحدة باستهداف مباشر لبعض مقار وقيادات "الحشد الشعبي" في العراق، وكان الاستهداف الأحدث يوم الخميس الرابع من يناير/كانون الثاني الجاري لـ"أبو تقوى السعيدي" القيادي بحركة "النجباء" على مقربة من مقر وزارة الداخلية العراقية، فضلًا عن التهديدات المتكرّرة بتصعيد المواجهة مع جماعة "أنصار الله" باليمن، فيما بدا وكأنه انسياق أمريكي لفخ التصعيد الإسرائيلي.
فلماذا هذا التغيّر في استراتيچية الحرب الإسرائيلية، وهل يعني نقل عدة ألوية إسرائيلية من الجنوب للشمال، نقل ساحة المعركة الرئيسية من غزْة إلى لبنان؟
يمكن تفسير هذا التغيّر بعاملين أساسيين، الأول هو تعظيم الشعور الداخلي بجسامة التهديد الذي يتعرّض له الأمن القومي الإسرائيلي عبر تسخين المواجهة على عدة جبهات وبالذات على الجبهة الشمالية الجاهزة أصلًا للاشتعال. وربما ساعد على الدفع في اتجاه هذا التغيّر خيبة الأمل التي مُني بها بنيامين نتنياهو بعد إحباط مشروعه لتقليص صلاحيات المحكمة العليا وتعزيز صلاحيات السلطة التنفيذية في مواجهتها. هذا المشروع الذي استهّل به نتنياهو عودته للسلطة في نوڤمبر ٢٠٢٢ مجددًا، وواجه في سبيل تمريره المجتمع الإسرائيلي كلّه تقريبًا، قد ذهب أدراج الرياح، ومن هنا بدا منطقيًا نقل انتباه المواطن الإسرائيلي من الداخل إلى الخارج.
ولا شك أنّ هذا التطوّر الأخير الخاص بإفشال مشروع إصلاح السلطة القضائية قد أضيف لعدد من الضغوط الداخلية التي يُنتظر أن يتعرّض لها فور انتهاء الحرب كقضايا الفساد وانقسامات حزب "الليكود"، ما يجعل من إطالة أمد الحرب وتصعيد مخاطرها هدفًا مشروعًا من وجهة نظر نتنياهو.
العامل الثاني؛ هو ما بدا من وصول الصراع على جبهة غزّة إلى مرحلة الجمود، فبعد كل هذا التقتيل والتدمير والتهجير الذي حصل على مدار ثلاثة أشهر لا يلوح في الأفق أمل تحقيق إسرائيل أيٍ من الأهداف التي وضعَتها لنفسها، وفي الوقت نفسه لم يكن أحد يتوقـّع أن تهزم حركة "حماس" جيشًا مدججًا بالسلاح الأمريكي فائق التطوّر رغم أهمية الخسائر الضخمة التي كبَدتها المقاومة لإسرائيل على المستوىين البشري أو المادي، وهذا معناه تفكير إسرائيل في ضخّ وقود جديد في الجبهات الأخرى.
هل يمكن أن يحقق هذا التغيّر الأهداف التي يصبو إليها نتنياهو؟ وهل يمكن أن يفيد هذا التصعيد الولايات المتحدة في نهاية المطاف؟
متى وجد الإسرائيلي أنّ التصعيد مع لبنان يصّب في صالح "حزب الله" فهذا سيكون له تأثير على تقييمه النهائي للموقف
مبدئيًا، يفيد نتنياهو "حزب الله" من حيث لا يعلم بالتصعيد الذي يمارسه في لبنان، وذلك لأنه يُكسب الحزب مصداقية سواء في تمسّكه بسلاحه في مواجهة استهداف العاصمة بيروت نفسها، أو في خروجه على القرار ١٧٠١ كمقابل لخرق إسرائيل كل القرارات الدولية، ومنها قرار الجمعية العامة بوقف إطلاق النار الذي توفّرت له موافقة ١٥٣ دولة.
وبالتالي فإنه متى حسب المواطن الإسرائيلي تكلفة التصعيد مع لبنان ووجده يصّب في صالح "حزب الله" فهذا سيكون له بالتأكيد تأثير على تقييمه النهائي للموقف. أما الولايات المتحدة التي هوت شعبية رئيسها في الداخل، فأكتفي بتعليق أحد الساسة العراقيين المخضرمين على التصعيد الأمريكي في العراق إذ قال إنّ الحل يكمن في شراء نظام صاروخي لإسقاط الدرونز الأمريكية التي تخرق السيادة العراقية، فهل كان يتصوّر أحد أن يكون هذا الخيار مطروحًا في العراق الذي كان في قبضة الولايات المتحدة منذ واحد وعشرين عامًا؟.
(خاص "عروبة 22")