هذه الواقعة مجرّد نموذج بسيط على معضلة عالمية عنوانها التحوّلات المناخية، وهي التحوّلات التي تقف وراء مرور العديد من الدول الأوروبية خلال صيف 2023 من عواصف وأعاصير، أو تعرّض بعض دول الخليج العربي منذ سنوات لتساقطات ثلجية، مع أنّها مناطق شبه صحراوية، وتتميّز بندرة سقوط المياه، فكيف نتوقع سقوط الثلج!
إلى وقت قريب، كان الخوض البحثي في قضايا البيئة والمناخ يقتصر على أهل الاختصاص، وغالبًا ما كانت علاقة شعوب المنطقة العربية بالموضوع، تدور في فلك تلك النشرات الجوية التي تبثّها الفضائيات والإذاعات.
الأمر لا يهمّ الشق البيئي الصرف وإنّما يتقاطع بشكل مباشر مع السياسة والأمن والاستقرار
بخصوص الخوض في موضوع التحوّلات المناخية، هنا في المنطقة العربية، فقد كان محصورًا في بضع مجلات تُعدّ على رؤوس أصابع اليد الواحدة، وأغلبها مجلات لبنانية، تتقدّمها مجلة "البيئة والتنمية" العريقة، والتي لا زالت تكابد وتصدر بوتيرة شهرية، وهذا مكسب إعلامي وبيئي يستحق التنويه، بخلاف ما جرى مع مجلة لا تقل نوعية، وكانت رائدة في الساحة، والحديث عن مجلة "بدائل" التي كانت النسخة العربية لمجلة "ذي إيكولوجيست" البريطانية، إلّا أنّها توقفت بعد تجربة لم تعمّر كثيرًا، لكن يُحسبُ لها أنّها كانت في مقدمة المنابر العربية المكتوبة التي ساهمت في التعريف برموز الدفاع عن البيئة في العالم، وفي مقدمتهم الراحل تيدي غولدسميث، صاحب مذهب "علم البيئة السياسي"، ومن أبرز مؤلفاته "طاوية الإيكولوجيا" و"محاكمة العولمة، ريكاردو بيتريللا وهو خبير مياه دولي ورئيس "المنتدى العالمي البديل للمياه"، فاندانا شيفا وهي فيزيائية وعالمة طبيعة وإيكولوجية وناشطة هندية، من مؤلفاتها "الإرهاب الغذائي: النهب المزدوج للطبيعة والمعرفة"، "الأخلاق والصناعات الغذائية: السيطرة على الحياة".
تطوّرت الأمور منذ تلك الحقبة حتى اليوم، ومن ذلك أنّ الدول العربية أصبحت منخرطة أكثر فأكثر في التصدّي للتحديات البيئية، بل إنّه في أقل من عقد، احتضنت بعض دول المنطقة مؤتمرات دولية حول البيئة، وفي مقدمتها مؤتمرات "الكوب" الخاصّة بمعضلة الاحتباس الحراري، الأول مع مؤتمر "كوب 22" في مراكش بين 7 و18 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، والثاني مؤتمر "كوب 28" في دبي بين 30 نوفمبر/تشرين الثاني و12 ديسمبر/كانون الأول 2023.
هذه مكاسب أولية، لكن ثمّة مجموعة من التحديات التي تواجه مجمل دول المنطقة بخصوص تبعات التحوّلات المناخية، لأنّ الأمر لا يهمّ الشق البيئي الصرف، وإنّما يتقاطع بشكل مباشر مع السياسة والأمن والاستقرار، وبشهادة أهل المجال نفسه، والنموذج هنا ما تضمّنه العدد ما قبل الأخير لمجلة "الدبلوماسي" الفرنسية، وهي مجلة - حسب التعريف الذي تضعه في غلافها - متخصّصة أساسًا في الشؤون الاستراتيجية والعلاقات الدولية، حيث كان ملف العدد حول "التحوّلات المناخية من منظور جيوسياسي"، (العدد 76، أكتوبر/تشرين الأول – نوفمبر/ تشرين الثاني 2023).
تضمّن الملف واحدًا وثلاثين مساهمة، منها أربع عشرة ورقة تحليلية، ومنها بالطبع التحديات الجيوسياسية المرتبطة بالتحوّلات المناخية في المنطقة العربية، ونزعم أنّ قراءة عناوين هذه الأوراق الخاصّة بالمنطقة، توجز الشيء الكثير، ومن ذلك، "الشرق الأوسط: التحوّلات المناخية باعتبارها مغذّية للتوترات والصراعات"، "العراق: إشارة إنذار موجهة إلى العالم"، "سوريا: التحوّل المناخي، معضلة إضافية على واقع دولة مدمّرة"، "هل النظام الإيراني مهدّد بالتحوّل المناخي؟".
الموضوع ليس بالهزل، ودخول صنّاع القرار في العالم بأسره على الخط، يصبّ في هذا الاتجاه، ولا ضير من التذكير بأنّ المرشح الرئاسي السابق للانتخابات الأمريكية آل غور، أصبح أحد رموز الدفاع عن البيئة، مبتعدًا عن العمل السياسي والحزبي، بل أصبح أحد أشهر السياسيين في العالم ممن يتنقلون بين القارات الخمس من أجل التحسيس بمخاطر الاحتباس الحراري، وجسّد ذلك من خلال عمله السينمائي التوثيقي "الحقيقة المزعجة" الفائز بعدّة جوائز تقديرية، بما فيها جائزة الأوسكار.
بقيت إشارة تهمّ الأقلام البحثية في المنطقة العربية، ونخصّ بالذكر الأقلام التي تحرّر في قضايا الفكر والدين، حيث نعاين غيابًا كليًا تقريبًا في الاشتغال على هذه القضايا، كأنّها غير معنية بها، أو غير مستوعِبة لقلاقل الموضوع، إلّا إن كانت تُطبّق من حيث لا تدري، قاعدة "الناس أعداء ما جهلوا" بتعبير أبو حيان التوحيدي.
نتمنى أن نعاين شجاعة الأقلام الفكرية العربية بالخوض في هذه القضايا
في الرابع من يناير/كانون الثاني الجاري، نشر المفكر الفرنسي باتريس مانيغليي، مقال رأي في صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية (توجّه يساري)، تحت عنوان دال: "عام 2024، أو السنة الأولى من الاحتباس الحراري؟"، معتبرًا أنّ تعاملنا الجمعي إجمالًا في الساحة العالمية (نترك جانبًا الاستثناءات) يندرج في خانة "الإفلاس الكبير"، مقترحًا أيضًا بعض المفاتيح النظرية أقلّها ما اصطلح عليه بـ"الحل البسيط: الاعتراف بأنّنا في عام 2023 قد غيّرنا العصر حقًا، لأنّه في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، ولأوّل مرة، كان متوسّط درجة الحرارة المسجّلة على سطح الكوكب أعلى بمقدار 2 درجة مئوية ممّا كان عليه في الماضي"، مضيفًا أنّ "السؤال الكبير في التاريخ الآن هو كالتالي: كم من الوقت سيستغرق حتى يُصبح هذا الحدث الاستثنائي هو القاعدة؟ هل سيكون الإنسان المعاصر قادرًا على التصرّف في الوقت المناسب حتى لا يؤدي عاداته إلى إنكار كارثي لوعوده؟".
شجاعة من مفكّر أوروبي الخوض في هذه القضايا بكل مسؤولية ورصانة، وهي الشجاعة التي نتمنى أن نعاين مثيلًا لها هنا لدى الأقلام الفكرية العربية، لأنّه اتضح عمليًا أنّ الأمر ليس ترفًا فكريًا.
(خاص "عروبة 22")