يحمل الاتفاق بصمات قوى إقليمية ودولية تكررت محاولاتها خلال العقد الأخير لاستغلال الموقع المفصلي الاستراتيجي لـ"صوماليلاند" على بُعد خطوات من باب المندب وحوض البحر الأحمر والمحيط الهندي، في ظل إشكاليات عدة تعرقل النهوض الاقتصادي والسياسي بدولة الصومال الفيدرالية الأم، العضو بالأمم المتحدة والجامعة العربية والاتحاد الأفريقي، وكذلك السباق على استغلال موانئ جيبوتي المستقرة الواقعة في الجانب المقابل لليمن بمضيق باب المندب.
لا تتمتع "صوماليلاند" دوليًا إلا باعتراف دولة ليست عضوًا بالأمم المتحدة هي تايوان، لكن في السنوات الأخيرة بات لها تمثيل شبه دبلوماسي في العديد من دول المنطقة، على رأسها الإمارات وإثيوبيا، والذي تجلى عام 2017 بتوقيع اتفاق استغلال "موانئ دبي العالمية" لميناء بربرة لمدة 30 عامًا، وتمتع إثيوبيا بحصة 19% من ذلك المشروع ليكون منفذًا تجاريًا لها بعد فشلها في التوصل إلى اتفاق مع جيبوتي للهدف نفسه، وبسبب الصراع التاريخي بينها وبين إريتريا المطلة على البحر الأحمر. إلا أنّ إثيوبيا خرجت من هذا الاتفاق عام 2022 بسبب معوقات اقتصادية ومشاكل مادية جعلت من الصعب استمرار استفادتها من ميناء بربرة، وأعلن رئيس الوزراء أبي أحمد أكثر من مرة حاجة بلاده إلى بديل تجاري جيّد يضمن خروج بلاده الحبيسة إلى المياه الدولية بسرعة وكفاءة، كان آخرها عندما أشار في سبتمبر/أيلول الماضي خلال مؤتمر استثماري كبير إلى أنّ حكومته "لن تدخر وسعًا في سعيها للحصول على منفذ بحري، حتى وإن كان ذلك باستخدام القوة، وأنها مستمرة في مخطط إحياء قوتها البحرية بمساعدة فرنسا".
شبكة معقّدة من الخلفيات وراء الاتفاق
واصلت "صوماليلاند" في الأعوام الأخيرة من خلال رئيسها موسى عبدي وقيادات الحكومة ومجلس النواب اتصالاتهم وزياراتهم لدول عربية وآسيوية بحثًا عن فرص للشراكة مقابل الاعتراف الدولي باستقلال جمهوريتهم عن الصومال، وتنامى بصورة ملحوظة في الإعلام الغربي – خاصة في بريطانيا التي كانت تسيطر على هذا الجزء من الصومال حتى عام 1960 وفرنسا المهتمة بالمنطقة - خطاب يدعو إلى الاعتراف بـ"صوماليلاند" واستغلال مقوّماتها وضخ استثمارات فيها، بزعم أنها "دولة ديمقراطية ومناهضة للتطرّف الديني والقوى الإسلامية التي ما زالت تحظى بشعبية في الصومال الأم".
وبدا واضحًا أنّ شرط "صوماليلاند" الأول للتعاون، هو الاعتراف بها كدولة، بالإضافة إلى دعمها عسكريًا وأمنيًا ضد موجات التطرّف المحتملة، فتحسّنت علاقتها مع تركيا التي رعت جولات تفاوض عدة بينها وبين الصومال الأم، كما تطوّرت علاقتها بدولة الإمارات العربية التي أصبح لها عام 2021 سفير في العاصمة هرجيسا التي رحّبت باتفاق السلام بين الإمارات وإسرائيل.
وكان هذا الترحيب يحمل مؤشرات جديدة لاحتمالية إحياء التعاون مع إسرائيل، التي كانت أول دولة اعترفت بها بعد الاستقلال عن بريطانيا عام 1960 قبل ضمّها إلى الصومال الأم، ثم ازدهرت العلاقات الاقتصادية بينهما بعد الانفصال الثاني في عهد الرئيس الأسبق محمد عقال، قبل أن تأخذ "صوماليلاند" خطوة إلى الخلف طمعًا في الاعتراف العربي، على الرغم من تصريحات "تحفيزية" إسرائيلية كان أبرزها عام 2010 من قبل يجال بالمور المتحدث باسم خارجية تل أبيب آنذاك، عندما أعلن استعداد الكيان للاعتراف بـ"صوماليلاند".
أما علاقة "صوماليلاند" بمصر، فظلّت محدودة بسقف العلاقة مع الصومال، على الرغم من وجود رعايا لها بالقاهرة واتصالات دبلوماسية لرعاية المصالح، وزار مسؤولون مصريون كبار هرجيسا مرتين في السنوات الأخيرة، عامي 2016 و2019، واستقبلتهما الحكومة بحفاوة بالغة، إلا أنّ القاهرة نفسها لم تعلن عن تفاصيل الزيارتين.
ساحل القرن الأفريقي بين مصر وإثيوبيا
حرصت مصر في عهد محمد علي باشا وحفيده الخديوي إسماعيل على التواجد العسكري في الصومال لتأمين مقوّماتها الاقتصادية، فانتزعتها من العثمانيين وبقيت تديرها حتى سيطر عليها البريطانيون عام 1884، أي بعد احتلالهم مصر بثلاث سنوات.
وفي ستينيات القرن الماضي حرصت مصر على دعم استقلال الصومال بكامل مناطقه ومكوّناته القبلية عن الاستعمار الغربي والطموحات التوسّعية للقوى الإقليمية الأخرى، كما كانت في طليعة مساندي ثورة شعب إريتريا منذ نهاية الخمسينيات ضد حكم الإمبراطور الحبشي "هايلا سيلاسي" وحتى استقلالها مطلع التسعينيات.
ولزيارة المسؤولين المصريين لـ"صوماليلاند" عام 2019 دور كبير في فهم مدى خطورة الاتفاق الأخير. حيث أشاع الإعلام المحلي في الدولتين وفي الصومال أنّ مصر قدّمت عرضًا لإنشاء قاعدة عسكرية بالقرب من بربرة، وأنّ "صوماليلاند" طلبت في المقابل اعتراف القاهرة، وتعاملت أديس أبابا مع الأمر باعتباره "تهديدًا استراتيجيًا لها" على خلفية قضية سد النهضة وتعثّر المفاوضات غير المجدية مع القاهرة.
وخرج المتحدث باسم الخارجية الإثيوبية دينا مفتي في أغسطس من ذلك العام "يحذر" من اتخاذ مصر خطوات "تصعيدية" في القرن الأفريقي، وزعم الإعلام شبه الرسمي الإثيوبي أنّ مصر ستقدم على تلك الخطوة استعدادًا لضرب سد النهضة.
من غير المعروف ما إذا كانت مفاوضات إثيوبيا مع "صوماليلاند" قد بدأت بعد استشعارها الخطر المصري، أم قبل ذلك، لكن الأكيد أنّ الاتفاق قد أُعدّ بعناية ليفاجئ الأطراف المهتمة، ولا دليل أوضح على ذلك من أنّ رئيسي الصومال و"صوماليلاند" كانا، قبل 48 ساعة فقط من إبرامه، يوقّعان في جيبوتي اتفاق استئناف المفاوضات، مما يجعل الاتفاق بمثابة صفعة للصومال وجيبوتي على حد سواء، لما يمثله من إهدار واضح لسيادة الأولى التي ترفض تقسيم أراضيها، وتهديد جسيم لمصالح الثانية بمزيد من المنافسة للقواعد العسكرية والتجارية القائمة على أراضيها، أخذًا في الاعتبار أيضًا أنّ هناك مشروعًا لتطوير خط السكك الحديدية الواصل بين أديس أبابا وميناء جيبوتي الذي يُعتبر حتى الآن المنفذ التجاري الأهم لإثيوبيا بنسبة 95% من حجم تجارتها الخارجية، تصديرًا واستيرادًا.
مخطط جديد وأخطار مختلفة
على ضوء المعطيات السابقة لا يمكن النظر للاتفاق وكأنه طموح اقتصادي أو استراتيجي لإثيوبيا، بل هي خطوة جديدة في مسلسل التخطيط الجديد للمنطقة، بتصعيد أدوار قوى منها أديس أبابا، ومحاصرة مصالح قوى أخرى على رأسها مصر، في ظلّ تعقيدات قضية سد النهضة وانسداد أفقها التفاوضي والتنافس الإقليمي المستمر بينهما.
فكما كانت أديس أبابا منزعجة من "تواجد محتمل" لمصر في القرن الأفريقي، فإنّ تواجد إثيوبيا عسكريًا – وليس اقتصاديًا فقط - على بُعد خطوات من باب المندب، من شأنه تعزيز موقعها - هي وحلفاؤها - في منطقة تمثّل عمقًا استراتيجيًا و"عنق زجاجة" لقناة السويس، لا سيما والفوضى تتصاعد في السودان مع العلاقة المتميّزة بين أبي أحمد وقائد ميليشيات "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو، الأمر الذي يرمي إلى تعزيز المكانة الاستراتيجية لإثيوبيا في المنطقة مقابل تآكل النفوذ المصري الناعم.
كما أنّ إعادة رسم إثيوبيا لصورتها كدولة ذات عمق جغرافي كبير وإطلالة ساحلية مميّزة قد يساعد في تحقيقها المزيد من النجاحات وجذب استثمارات أكبر لمشروعاتها التنموية وعلى رأسها سد النهضة الذي تساعد في إنشائه وتشغيله واستثماره دول عدة، علمًا بأنّ بعضها بالفعل له تواجد عسكري بقواعد متفاوتة الحجم في جيبوتي، ويمكنها الاستفادة بصور مختلفة من التواجد العسكري أو الاقتصادي لإثيوبيا في خليج عدن.
وهنا يجب التنبّه أيضًا إلى ترجيح أن تنشأ القاعدة الإثيوبية في مدينة زيلع أقصى الشمال الغربي للصومال والتي كان بها ميناء تاريخي قديمًا، وليس في ميناء بربرة الذي تديره الإمارات، ما يعني أن يصبح ساحل المنطقة مكتظًا بالمصالح الحساسة والمتضافرة، ولا يكون كافيًا – في المستقبل - لاستضافة تواجد مصري أو عربي آخر يزاحمها حال الاحتياج في أوقات السلم أو الحرب.
ولذلك كان طبيعيًا أن تعلن مصر وجامعة الدول العربية معارضة الاتفاق، حتى وإن اقتصر السبب المعلن على دعم سيادة الصومال الأم ووحدتها على أراضيها وسواحلها كاملة، ورفض أن تتحوّل "صوماليلاند" إلى شوكة إضافية في خاصرة العالم العربي المأزوم. ويجب أن لا يتوقف هذا الدعم عند حد التضامن الشفهي والشجب، بل ينبغي مساندة مقديشيو في تطويره – على الأقل - دبلوماسيًا وقانونيًا من خلال اللجوء إلى مجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية بهدف وقف هذا الإجراء المحمّل بالكثير من النوايا "غير الطيّبة".
أما الاتحاد الأفريقي الذي عجز مرارًا عن التدخل لحسم أي صراع تكون إثيوبيا طرفًا فيه، نظرًا لكونها دولة مقرّه، فلا مناص من أن يكون ساحة أخرى للحشد الدبلوماسي دفاعًا عن سيادة الصومال وللحد من مخططات أديس أبابا للتغوّل المتكرّر عليها والإخلال بالمواثيق الأممية والقارية بحثًا عن الوجود الساحلي المنشود، وانطلاقًا من الماضي المضرج بالدماء في الحروب بين الشعبين، مرورًا بالانتهاكات الحدودية.. ووصولًا إلى الشراكة الرسمية مع كيان انفصالي.
(خاص "عروبة 22")