وجهات نظر

الوطنية والعروبة وحرب غزّة

مشهد استهداف القيادي في حركة "حماس" صالح العاروري في قلب الضاحية الجنوبية، معقل "حزب الله"، في بيروت، واستهداف قيادات محسوبة على محور المقاومة في سوريا والعراق، فتح نقاشًا واسعًا حول حسابات الوطني والقومي وحدود الفارق بين الحسابات الوطنية والداخلية لكل بلد وبين الحسابات العابرة للحدود سواءً ارتدت ثوبًا قوميًا أو دينيًا أو أمميًا.

الوطنية والعروبة وحرب غزّة

وإذا كان هناك من يرى وفق أدبياته القومية أو الدينية ضرورة مشاركة الجميع في تحرير فلسطين ولو بالقوة المسلّحة، فإنه من الصعب أن نقول مهما كانت درجة تحيّزاتنا الأيديولوجية أنّ هذا الموقف العروبي المبدئي تعتمده بالضرورة أغلب الجماهير العربية التي باتت تأخذ بعين الاعتبار مصالحها وهمومها الوطنية حتى لو دعمت فلسطين.

إنّ السؤال الذي يجب أن يُطرح، هل هذا الانتماء الوطني متعارض مع الانتماء القومي؟ وهل إذا رصدنا أنّ هناك دائمًا فارقًا في الاستعداد لدفع الثمن البشري والمادي بين شعب احتُلّت أرضه بشكل مباشر وبين آخر عربي يتضامن معه غير محتلّة أرضه يصبح ذلك انتقاصًا من الانتماء القومي؟.

صحيح هناك من يقول وفق تصورات أيديولوجية نعم جميع الشعوب على استعداد لدفع الثمن نفسه، ولكن الواقع يقول إنّ هناك فارقًا بين الجانبين، وهو لا يتناقض مع الانتماء القومي الذي يجب أن لا يتعارض مع المصالح الوطنية لكل بلد.

مشروع الوحدة العربية لن يكون قادرًا على خلق هوية صلبة إلا إذا تأسّس على شراكات اقتصادية وسياسية وثقافية

والحقيقة أنّ الشعب اللبناني واحد من الشعوب العربية التي دفعت ثمنًا باهظًا لدعمها القضية الفلسطينية ولا زالت على استعداد لدفع المزيد إذا كان في إطار تحرك عربي شامل يدفع الجميع ثمنه البشري والمادي، ولكنه ليس على استعداد في الوقت الحالي أن يدخل في حرب بمفرده ضد إسرائيل يُدمّر فيها البلد ويسقط آلاف الضحايا ولا تحرّر القدس ولا حتى الضفة الغربية.

المشاعر الوطنية التي تخاف على البلد وعلى أهلها ومصالح شعبها يجب أن لا يُنظر إليها بنوع من الإدانة والريبة وفق أي تصوّرات قومية أو دينية، لأننا يجب أن ننطلق من أننا أمّة عربية قيد الاكتمال، وأنها كانت موجودة في الماضي، أما في الحاضر فهي موجودة كوحدة حضارية ولغوية، ولكن ليست سياسية ولا اقتصادية ولا عسكرية، وإنّ حدودها الوطنية التي رُسمت في العقود الأخيرة خلقت هويات ومصالح وحسابات وطنية لكل بلد، وهو أمر لا يجب تجاهله، وإنّ مشروع الوحدة العربية لن يكون قادرًا على خلق هوية عربية صلبة وقوية إلا إذا تأسّس على شراكات اقتصادية وسياسية وثقافية واحدة ستضيف لهوية المشاعر والانتماء جوانب أخرى قائمة على المصالح الواحدة التي تجعل الأمّة العربية وليس بلد واحد يأخذ قرار الحرب.

من المهم أيضًا القول إنّ بلدًا مثل مصر تعاطف فيها الناس مع الشعب الفلسطيني بصورة غير مسبوقة منذ اندلاع حرب غزّة، وأبدوا استعداداهم لتقديم مختلف صور الدعم الإنساني والمادي والإغاثي، ولولا القيود المفروضة على المعبر الحدودي الذي يفصل بين مصر وغزّة لكنا شهدنا صور شجاعة لدعم وتضامن غير مسبوقين من قبل غالبية المصريين.

ومع ذلك فإنهم لا يعتبرون أنّ دعم الشعب الفلسطيني يعني الدخول في حرب ضد إسرائيل، ليس نتيجة أنّ هناك تقديرات تقول بأنّ إسرائيل في وضع عسكري واقتصادي أقوى، ولا بسبب أنّ مصر تعاني من أزمات اقتصادية كبيرة، إنما لأنّ هناك قناعة أنّ مصر استعادت أرضها المحتلّة ولا يمكن أن تدخل منفردة في حرب أخرى ضد إسرائيل ولو من باب الدعم والتضامن مع الشعب الفلسطيني لأنّ هذا القرار يجب أن يكون قرارًا عربيًا يُجمع عليه العرب، وهو لن يتحقق إلا إذا بُني مشروع متدرّج للوحدة العربية يؤسّس على الجانب التاريخي مصالح سياسية واقتصادية واستراتيجية مشتركة تصنع الهوية العربية الجديدة.

من هنا علينا ألا نندهش حين سنجد أنّ الشعب الفلسطيني أصبح متسقًا مع هذا التصوّر الوطني الجديد، فقد خاض صورًا مختلفة من المقاومة المدنية والمسلّحة من أجل تحرّره واستقلاله وتحمّل فيها الثمن الأكبر حتى لو نال دعم وتضامن الأحرار في كل دول العالم وليس فقط في العالم العربي.

قدرة الشعوب على تحمّل أثمان نضالها من أجل التحرّر أكبر من استعداد شعوب أخرى لتحمّل هذا العبء من أجل التضامن 

منذ الانتفاضة الشعبية والمدنية في 1987 والتي عُرفت بانتفاضة الحجارة ثم انتفاضة الأقصى في عام 2000 وغيرها، والشعب الفلسطيني يخوض حرب تحرير وطنية كبرى بأدوات جديدة اعتمدت على الداخل الفلسطيني وساهمت في فتح مسار سياسي أدى إلى التوقيع على اتفاق أوسلو في 1993 والذي فتح الباب أمام حل الدولتين قبل أن تُجهضه السياسات الاستيطانية وممارسات آخر دولة احتلال عنصري في العالم.

وجاءت مواجهات فصائل المقاومة المسلّحة لتعكس نمطًا آخر لحرب التحرير الوطنية، وخاصة عقب عملية 7 أكتوبر/تشرين الأول التي تحمّل عبأها الشعب الفلسطيني صاحب المصلحة الوطنية الأولى في إنجاز عملية التحرّر، وعلينا ألا ننسى أنّ كل الشعوب العربية التي تضامنت مع الشعب الفلسطيني في نضاله العادل لم تستطع أن تتحمّل الثمن البشري والمادي نفسه الذي يدفعه حاليًا في غزّة، وهو أمر طبيعي ومفهوم لأنّ قدرة الشعوب على تحمّل أثمان نضالها من أجل التحرّر الوطني أكبر بكثير من استعداد شعوب أخرى لتحمّل هذا العبء نفسه من أجل التضامن مع شعب آخر حتى لو كان عربيًا شقيقًا.

لا زال الدعم العربي لغزّة أقل بكثير من المطلوب، وعلينا أن ننتقد أداءنا في المساحة القادرين على المساعدة فيها، وهي الدعم الشعبي والقانوني والسياسي، وباستثناء الأولى التي قيّدت الأنظمة حركتها، فإن باقي صور الدعم كانت محدودة وباهتة ولنا في شجاعة وجرأة جنوب أفريقيا أسوة حسنة، التي اتهمت إسرائيل في محكمة العدل الدولية بارتكاب إبادة جماعية، وهو موقف لم يُقدم عليه أو يتضامن معه نظام عربي واحد.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن