اغتيال العاروري المتوقّع، شكّل مفاجأة مثّلثة الرؤوس وخسارة حقيقية لكل من حركة "حماس" و"حزب الله" و"محور المقاومة". فالعاروري هو الذي أعاد فتح قنوات التواصل والترابط التي أغلقتها سياسات رئيس "حماس" السابق خالد مشعل، ودشّن المصالحة مع سوريا ورئيسها بشار الأسد، وأعاد صياغة العلاقة مع "حزب الله" ما وفّر له قبولًا جديدًا في الساحة السنّية، وهو الذي أعاد فتح أبواب طهران أمام "حماس" التي أصبحت بجهوده ضمن "محور المقاومة".
استهداف "ميرون" على أهميتها الاستراتيجية لا يشكل ردًّا على الاغتيال الذي لا يماثله إلّا هدف داخل تل أبيب
بهذا المعنى، فاغتيال العاروري خسارة لكل هذه الأطراف بالجملة والمفرّق سياسيًا، أما من الناحية الأمنية فقد شكّل اغتياله إحراجًا كبيرًا لـ"حزب الله" ليس لأنه ورفاقه بضيافته وحسب، وإنّما بسبب "الخرق الأمني الكبير" الذي مكّن العدو الاسرائيلي من تسديد ضربته الخطيرة التي أراد نتنياهو عبرها ترميم صورة زعامته الشخصية، فضلًا عن تباهيه باستعادة صورة الردع الاسرائيلي التي تحوّلت لمسخرة أمنية منذ فجر "الطوفان"، حتى لو كلّفه الأمر الإطاحة بقواعد الاشتباك المعتمدة مع "حزب الله" منذ عدوان تموز 2006، وهو ما دفع زعيم "حزب الله" إلى تأكيد الردّ على اغتيال العاروري، بهدف استعادة الحزب للردع، قبل أن تتفاجأ "الضاحية" باغتيالات جديدة.
بين إطلالتَيّ زعيم "حزب الله" الأخيرتين، برزت معادلة لافتة لـ"الحرس الثوري" الإيراني تقول إنّ "اغتيال العاروري لن يجعل حسابات المقاومة تقع في خطأ استراتيجي"، وهو أشبه بالتنصّل من الردّ المماثل، ووفق هذه المعادلة صاغ "حزب الله" ردّه باستهداف قاعدة "ميرون" المتموضعة على قمة جبل الجرمق "أعلى قمّة جبل في فلسطين المحتلة" بنحو 60 صاروخًا من أنواع متعددة، وتُعتبر القاعدة "المركز الوحيد للإدارة والمراقبة والتحكّم الجوّي في شمال الكيان وتُعنى بالعمليّات الجويّة وعمليّات التشويش الإلكتروني في المنطقة (سوريّا - لبنان - تركيّا - قبرص..)". ردّ "حزب الله" مخالف لقواعد الاشتباك وتماثلها، فاستهداف "ميرون" على أهميتها الاستراتيجية، لا يشكل ردًّا على الاغتيال الذي لا يماثله إلّا هدف داخل تل أبيب.
وبعد إعلان الحزب عن "ردّه الأولي" على اغتيال العاروري واستهداف الضاحية الجنوبية، فوجئ باغتيال "إسرائيل" للمسؤول عن قصف "ميرون" القيادي وسام الطويل، ما عمّق معضلة الاختراق الأمني من جهة، ورفع من غليان جبهة الجنوب وسخونة اتساع رقعة الحرب الإقليمية من جهة أخرى.
وفق هذا السياق، لم تزل عملية "طوفان الأقصى" تُتحفنا بحجم الإحراج الوجودي الذي أصاب أطراف الحرب الصهيونية وامتداداتهم الإقليمية والدولية. فقد انفجر الإحراج صراعًا قويًا داخل الكيان على مستويات عدة. أولًا، داخل حكومة الحرب وبين أطرافها. ثانيًا، بين بعض حكومة الحرب والجيش الاسرائيلي على خلفية رفضهم تعيين رئيس الأركان لجنة تحقيق في أحداث السابع من أكتوبر. ثالثًا، بين شرائح واسعة من المستوطنين وحكومة الحرب حيث طالبت المظاهرات باستقالة نتنياهو. رابعًا، بإعلان أكثر من 160 ضابطًا دعمهم لرئيس الأركان، وتأكيدهم أنهم يقاتلون على جبهات غزّة، لبنان، سوريا، العراق واليمن، وحكومة الحرب أيضًا وتصريحاتهم التي تعكس حجم الخلاف العميق بينهم وبين نتنياهو حول أهداف الحرب و"اليوم التالي"، فضلًا عن مظاهرات ومطالبات أهالي الأسرى المحتجزين في غزّة بصفقة تبادل تُنقذ ما تبقى من أبنائهم، ما يؤكد بأنّ عصفًا كبيرًا يصيب الكيان المأزوم ويهزّه على نحو غير مسبوق في تاريخه.
سليماني كان أمينًا على مصلحة إيران العليا المتناقضة مع المصالح العربية
هذه الوقائع دفعت نتنياهو إلى محاولة خلط الأمور والهروب إلى الأمام عبر فتح جبهات أخرى استهلّها بالاغتيالات المذكورة أعلاه، والتي انخرط فيها الأمريكيون كتعبير متناسق عن العمليات الجراحية كالتي استهدفت زوارق بحرية للحوثيين في البحر الأحمر ما أدّى لمقتل وإغراق عشرة منهم، ثم اغتيال القيادي في حركة "النجباء" في الحشد الشعبي "أبو تقوى السعيدي" لدوره في استهداف القواعد الأمريكية، ما وضع العلاقات الأمريكية العراقية على المحك وسط مطالبات للحكومة العراقية بإلغاء التعاون مع القوات الأمريكية وطردها خارج العراق، دون إغفال تفجيرات "كرمان" التي أصابت محيط قبر قاسم سليماني، حيث بُعث تنظيم "داعش" من مواته والانتصار المتكرّر عليه، ليُعلن مسؤوليته عنها!
هذه المروحة الأمريكية الاسرائيلية المتداخلة من إسالة الدماء على امتداد "محور المقاومة" تمّت لأسباب متباينة بين الأمريكيين والإسرائيليين، فإذا كان هدف نتنياهو الهروب إلى الأمام وجرّ الأمريكيين معه إلى مواجهة ضد إيران و"حزب الله"، فإنّ هدف الأمريكيين في العراق وسوريا واليمن هو محاولة ردع الفصائل الموالية لإيران عن توسيع رقعة الحرب عبر استهداف القوات والقواعد الأمريكية، وأيضًا ضمان حرية الملاحة في البحر الأحمر، ما يعني بأنّ إجراءات الحوثيين التضامنية مع غزّة والمقاومة الفلسطينية فعلت فعلها التأثيري، في وقت تفشل فيه الولايات المتحدة في تطعيم تحالفها الدولي بضمّ السعودية ومصر إليه.
بالعودة إلى خطاب زعيم "حزب الله" في ذكرى اغتيال قاسم سليماني ورفيقه أبو مهدي المهندس، الذي فُرض اغتيال صالح العاروري على أجندته. فقد بدا فاقعًا للغاية تمجيد نصرالله المتجاوز لحقيقة دور سليماني الذي كان أمينًا على مصلحة إيران العليا، المتناقضة مع المصالح العربية خصوصًا في العراق الذي ينظر الكثير من أبنائه الشيعة العرب قبل السُنّة بشكل مناقض تمامًا لنظرة نصرالله الذي يجهد لفرض سليماني كأيقونة تتجاوز برمزيتها الثائر العالمي "غيفارا". وربما كان على نصرالله التوقف مليًا أمام ثورة تشرين العراقية التي أقدم شبابها مرارًا على إحراق وتمزيق صور سليماني وخميني وخامنئي بل وإحراق القنصليات الإيرانية في البصرة والنجف وغيرهما.
"المهندس" كان نائبًا في برلمان العملية السياسية لصاحبها بول بريمر مع غيره من الوافدين على متن الدبابات الأمريكية
وبالنظر إلى الدور الذي أدّاه سليماني في دعم وتدريب وتسليح "حزب الله"، يمكن فهم وتفهّم مواقف نصرالله وهذا حقّه، لكن أن يصل الأمر إلى حدّ تزوير الحقائق والوقائع التاريخية، وتصويره أبو مهدي المهندس قائدًا للمقاومة العراقية منذ عام 2003، فهذا يُشكّل سطوًا فاضحًا على جهود "المقاومة العراقية الحقيقية" التي واجهت الاحتلال وأثخنته، ويومها كان "المهندس" واسمه الأصلي "جمال جعفر محمد" نائبًا في برلمان العملية السياسية لصاحبها بول بريمر، وغيره من الوافدين إلى العراق على متن الدبابات الأمريكية، يقفون بالطابور كي تفتّشهم الكلاب البوليسية الأمريكية قبل أن تسمح لهم بالدخول إلى المنطقة الخضراء.
بدون شك، في جعبة زعيم "حزب الله"، قبل أن يعتنق عقيدة "الصبر الاستراتيجي"، الكثير من المواقف والمواجهات مع العدو الإسرائيلي التي تغنيه عن الإفتئات على تاريخ المقاومة العراقية وتزوير وقائعه في خضم بركات "الطوفان".
(خاص "عروبة 22")