وإذا كانت مصر قد لعبت دورها القيادي في الحقبة الحديثة، استنادًا إلى موقعها الجغرافي، وريادتها الثقافية، وكتلتها الحيوية، وسبقها الاقتصادي على أرضية الثورة الزراعية، فالمؤكد أنّ هذا الدور تراجع تدريجيًا حتى غاب تقريبًا في الحقبة المعاصرة، فوصلت المنطقة إلى حد التيه التاريخي والضياع الاستراتيجي، تتهدّدها النزعات الطائفية والمذهبية والجماعات الاحتجاجية النابعة من داخلها، وضغوط دول الجوار المحيطة بها، وهجوم الصهيونية المسيحية على قدس أقداسها وموضع القلب منها. ولذا فثمة ضرورة عاجلة لاستعادة الدور المصري في تكتيلها ورسم أفق استراتيجي لها، الأمر الذي يتطلّب من مصر الاضطلاع بمهام ثلاث أساسية:
المهمة الأولى: تنشيط دورها العسكري، خروجًا على الحذر السائد طيلة العقود الخمسة الماضية، والتي لم تخرج خلالها عن حدودها إلا ضمن الحشد الدولي لتحرير الكويت، مما لا يتناسب مع كثافة الضغوط المحيطة بها. فرغم التحوّلات التاريخية في بنية ومضمون الأدوار العالمية وكذلك الإقليمية ابتعادًا عن منطق الجغرافيا السياسية، واقترابًا من منطق الجغرافيا الاقتصادية، تبقى للقوة العسكرية مركزيّتها.
نعم لا يكفى السلاح وحده لصناعة المكانة الاستراتيجية أو لعب الأدوار المركزية، التي تتطلّب عناصر أخرى كثيرة، ولكن غيابه بالذات يفقد هذه العناصر كلّها العمود الفقري الذي تستند إليه، مما يدفع إلى تناثرها ويسحب سلطان الهيبة من صاحبها، ويحرمه من ممكنات القيادة وشرعية الحضور.
تمتلك مصر وحدها من عناصر القوة الشاملة ما يعادل تركيا ويتجاوز إيران
المهمة الثانية: صياغة رسالة حضارية تمنح للقوة العسكرية مشروعيّتها الأخلاقية، فليس مطلوبًا أن تتحوّل مصر إلى فتوة الإقليم، بل إلى قائده الملهم، الذي يعبر به كل المشروعات الطائفية والمذهبية والعرقية التي تورّطه في صراعات بين السنّة والشيعة، بين العرب والفرس والأتراك والأكراد، وذلك نحو مشروع عربي متمدّن، يرتكز إلى قيم الإسلام الحضاري التي تستوعب وتتسامح مع جميع الاختلافات. ومن ثم يفتح الباب لعلاقة بنّاءة مع الدول الإقليمية الكبرى حول المشرق العربي كتركيا وإيران، دون عقد نقص تجاه أي منها، إذ تمتلك مصر وحدها من عناصر القوة الشاملة ما يعادل تركيا ويتجاوز إيران، خصوصًا وأنّ أية إستراتيجية طويلة المدى للأمن القومي العربي تقتضي حوارًا مباشرًا وتفاوضًا شجاعًا مع البلدين، بدلًا من اللهاث خلف ذيولهما المذهبية، والتورّط في حروب الوكالة التي تمارسها جماعات الإسلام السياسي سواء السنّية أو الشيعية بالنيابة عنهما، ويبقى القاتل والقتيل فيها عربيًا.
مصر بحاجة إلى تجديد سحرها تجسيدًا لـ"نموذج تحرّري" في الداخل يمتلك كاريزما الإشعاع في الخارج
المهمة الثالثة: صياغة نموذج يمكن التبشير به، فالقائد لا بد وأن يمتلك القيم الأكثر تقدّمية وعصرية، كي يُقنع الآخرين بالسير خلفه. وإذا كان سبق مصر إلى "الحداثة الثقافية"، وممارستها، مع لبنان، دور الجسر الذي عبرت عليه الأفكار والفنون الحديثة إلى جل المجتمعات العربية، قد وفّر أرضية جذابة لقيادتها في القرنين الماضيين، فقد تقادمت تلك الجاذبية، وصارت بحاجة إلى تجديد سحرها بقيم "الحداثة السياسية" من قبيل النزعة الفردية، والديمقراطية التمثيلية، تجسيدًا لـ"نموذج تحرّري" في الداخل، يمتلك كاريزما الإشعاع في الخارج، يقتفي أثره من يرغب فيه طوعيًا ودونما قسر، احترامًا لمفهوم الدولة الوطنية، الذي طالما تنكرت له المشاريع الإيديولوجية الراديكالية، خصوصًا الإسلاموية، بحثًا عن أطر أوسع من الدولة، فإذا بها تورّطنا في صراعات تقودنا إلى ما هو دونها.
وبدلًا من ترك الساحة أمام الخطاب الإسرائيلي، المكرّس غربيًا، عن الدولة الديمقراطية الوحيدة وسط أحراش الاستبداد بطول وعرض المنطقة، يصبح لدينا نموذج مكافئ يحيد النموذج الإسرائيلي ليس فقط على سبيل الخطاب بل أيضًا على صعيد الواقع.
(خاص "عروبة 22")