وفي الوقت الذي توسّع فيه الحديث عن تزايد سلطة الغرب ونفوذه إلى أبعاد كوكبية، بحيث جابت ناقلاته وطائراته مختلف الجغرافيات، وتمددت تحديدًا قواعده العسكرية إلى أكثر بلدان العالم حساسية وأهمية، إلى الدرجة التي جعلت الوعي العالمي يتقبّل الفكرة ويتماهى معها، فجأة تغيّر كل شيء، وبدا أنّ الهيمنة الثقافية والسياسية والعسكرية والاقتصادية للغرب باتت تواجه ما يتحداها ومن المسافة الصفر، وفي أكثر رموزها حساسية واستراتيجية (إسرائيل)، ورغم أنّ التكلفة كانت ولا تزال عالية جدًا وقد وصلت بالفعل إلى حد لا يطاق كما أريد لها، إلا أنها أكدت على أنّ العالم ما زال يسوده الظلم والقهر، وأنّ الظروف ما زالت تخدم وجود عالم مقسّم إلى أحزاب ومعسكرات تناصب بعضها البعض العداء، وترتزق وتتغذى من هذا العداء اطرادًا.
قبل أحداث "طوفان الأقصى" وما تبعها، أكد عدد من العلماء أمثال "غيدنز" عن بلوغنا مرحلة عولمة الثقافة، بما هي ذلك الاعتماد المتبادل على الصعيد العالمي خارج محورية الغرب، والمتألفة تحديدًا من هويات متداخلة أوروبية وأمريكية وأفريقية وآسيوية، لتُشكّل "هجينا مزدهرًا من الأفكار والممارسات المتشعبة والتي تقاوم حصرها في قالب الاثنية "الغرب وبقية العالم"، وعلى هذا خرجت "كتائب القسام" والجماهير المساندة لها، لتحارب ذلك الحصر والطمس، وتأبى إلا أن تتدفق وتسيل خارج السياج والغلاف العازل الذي وُضع لها.
ثمة شواهد كثيرة توحي بأنّ القضية الفلسطينية لا تزال حية وازدياد الوعي السياسي بقضية كادت تطوى إلى الأبد
وبعيدًا عن عنف الآلة الحربية الأمريكية بأيدي إسرائيلية والمقاومة المستميتة من طرف "كتائب القسام"، والتي جعلت قضيتها الأسمى الإبقاء على القضية الفلسطينية موضوعًا محوريًا لدى صانعي السياسات العالمية مهما ارتفعت الكلفة في الأرواح البشرية، فقد كان للرأي العام العالمي موقف آخر، موقف ساهمت وسائل الإعلام الشبكية وقنوات الاتصال الشخصية في صنع مفاصله وتشابكاته، وبقدر ما انحازت قيادات "القسام" إلى الصورة الصامتة والمثلث الأحمر للتعبير عن مقاومتها ومواقفها مع بعض الاستثناءات لرجلها المُلثم، لجأ متحدثو الحكومة الإسرائيلية إلى كثافة الخطاب واللغة العنيفة متجاهلين أو جاهلين بطبيعة المنطق الشبكي وديناميته، كثافة كشفت عن عقيدتهم الدفينة في التعالي والسمو فوق بقية العالم، معيدين إنتاج المثل العليا القديمة للهيمنة الغربية، وادعاءاتها الكوكبية، وبين هؤلاء وهؤلاء "دأب الآسيويون والأفارقة وعرب المشرق وسكان جزر المحيط الهادي والمواطنون الأصليون الأمريكيون على العمل بأساليب مختلفة، لتأكيد استقلالهم عن الهيمنة الثقافية والسياسية للغرب وأسّسوا مجالًا متعدد الأصوات" (جيمس كليفورد).
وبالرغم من قسوة سيل مشاهد المجازر والتدمير التي طالت الشرق (غزّة) وهو يتحدى الغرب: أمريكا وإسرائيل على وجه التحديد، والتي جعلت العقد الشبكية تصل حد التشبع، بالرغم من ذلك، ثمة شواهد كثيرة توحي بأنّ القضية الفلسطينية لا تزال حية وفي حالة جيدة، بل إنها في الحقيقة آخذة في الازدهار بقوة أكثر مما كانت، وتمارس بكفاءة نفوذًا متزايدًا من حيث الأهمية والحضور الاستراتيجي على طاولة المفاوضات ووضع الاستراتيجيات، وازدياد الوعي السياسي بقضية كادت تطوى إلى الأبد، هذا مع ظهور متزايد لتعاطف عالمي معها، وتمددها إلى جغرافيات ثقافية أكثر اتساعًا، كانت حتى وقت قريب مع السردية الإسرائيلية المُؤثثة بفظاعة المحرقة ووحشية النازية.
الموقف العالمي الراهن في حاجة مُلحة إلى البحث عن بدائل أكثر إنصافًا لسرديته المتحيّزة
من أحداث "طوفان الأقصى"، والتي هي صورة لشرق ساحر خرج فجأة لتحدي غرب مارق ظل حتى وقت قريب موغلًا في إيلامه، ماضيًا في هيمنته ومصادرته حقوق الشعوب المقهورة وإرادتها في تدبير شؤونها المجتمعية والسياسية، من هذه الصورة القاتمة للغرب، ومن انقسام العالم إلى أغلبية هشة تطالب بالتمسك بالنزعة الإنسانية العالمية، وأقلية نافذة تطالب بإنزال أشد العقاب بكل المقاومين والمتعاطفين، تتبدى حقيقة أنّ العنف لا يجلب إلا العنف، وأنّ الموقف العالمي الراهن في حاجة مُلحة ليس إلى إسكات أصوات القهر القديمة فقط، بل والبحث أيضًا عن بدائل أكثر إنصافًا لسرديته المتحيّزة، وهنا نستشهد بما أبدعه الفيلسوف الأسترالي "أران غار" قائلًا: "إنّ ما نحن بحاجة إليه للمساهمة في تحقيق تفاهم متبادل أكثر وأعظم بين الشعوب.. ليس مجرد هدم سردية المحورية الغربية بل بناء سرديات أكبر تتجاوز أطر فكر المحورية الغربية".
(خاص "عروبة 22")