تقدير موقف

المواطَنة المُعاقة!

لعلّ أهم ما يمكن رصده في المشهد العربي الرّاهن هو أنّ المواطَنة التي وُعد بها المناضلون الأُول من أجل الاستقلال العربي - ومن سار على دربهم - لم تتحقّق. تلك المواطَنة التي من شأنها بلورة المجال الوطنيّ الجامع للمختلفين، وكفالة تأمين العدالة والمساواة، وضمانة توفير الكرامة الإنسانية والحياة الكريمة لجميع المواطنين على اختلافهم، بقيت حتّى اليوم مشروعًا مُتعثّرًا في بعض السياقات، ومُبْتَسَرًا في سياقاتٍ ثانية، ومؤجّلًا في سياقاتٍ ثالثة. أو لنقل، إجمالًا، مُعاقًا... والسؤال الذي أظنّه مشروعًا ما الذي أعاق تحقّق المواطَنة؟.

المواطَنة المُعاقة!

تُشير تفاصيل المشهد العربيّ الرّاهن إلى أنّ البنى الاجتماعية التقليدية ظلّت أبيّةً على التحديث بعد أكثر من قرنٍ من محاولات الانخراط في الحداثة، ومن ثمّ لم يكن من العسير عليها إعادة إنتاج علاقات ما قبل الدولة، ليس فقط في المجتمع والمجال العام، بل امتدّت عملية إعادة الإنتاج تلك إلى مؤسّسات الدولة نفسها. ما أنتج، بالأخير، تشكيلةً مجتمعيّةً تتكوّن من جماعات إثنية متوازية مع بعضها البعض، ومُغلقة لا تنفتح إلّا لتحالفٍ مؤقّت بين بعضها ضدّ البعض الآخر، وعقد اجتماعيّ بين سلطة لجماعة متغلّبة وبين باقي الجماعات، لا عقد اجتماعيّ / وطنيّ بين دولة وطنية حديثة دستورية قانونية عصرية ومواطنيها بكلّ ألوان طيفهم.

المواطَنة لا تتجسّد إلّا حين ينتقل الأفراد من "الخاصّ الضيّق" إلى "العامّ الرّحب" ومن الولاءات الجزئيّة إلى الانتماء الجامع

ولعلّ مراجعة الخطاب السياسي العربي الرّاهن لن تُخطِئ الحكم أو تتجنّى عليه بأنّه خطاب لا حداثي يُعيد تعريف المواطِن لا بوصفه فردًا حرًّا يجمعه مع مواطنين آخرين وطن واحد / جماعة وطنية واحدة، بل باعتباره عنصرًا تابعًا لطائفة، أو عشيرة، أو قبيلة، أو مذهب. وعليه يتوجّه الخطاب إلى مخاطبة - لا المواطنين غير المتماثلين - الجماعات والطوائف والتكتّلات الإثنيّة التي تتعامد فيما بينها في علاقاتٍ رأسية.

إنّ الحضور الجمعي الفاعل للمواطنين، أي استحضار الأفراد من دوائر انتماءاتهم الأوليّة / الفرعيّة، والتي هي بطبيعة الحال غير متماثلة، إلى المجال الحيويّ الجامع: الوطن؛ يُعدّ شرطًا تاريخيًّا لتحقيق المواطَنة في الدولة الحديثة. فالمواطَنة لا تتجسّد إلّا حين ينتقل الأفراد من "الخاصّ الضيّق" إلى "العامّ الرّحب"، ومن الولاءات الجزئيّة إلى الانتماء الوطنيّ الجامع. فبانتقالٍ كهذا تصبح المواطَنة واقعًا حيًّا وممارسةً فعليةً مُتاحةً للجميع على اختلافهم، ومن ثم تتجاوز أي إعاقات أو عراقيل. على النّقيض، فإنّ بقاء الأفراد يتحرّكون في إطار دوائر الانتماءات الأوليّة / الفرعية: العزوة، والقبيلة، والعشيرة، والطائفة؛ لا يبارحونها، سيحول دون بناء الأوطان / الدول بهياكلها ومؤسّساتها الجامعة، اكتفاءً بالهياكل والمؤسّسات الخاصّة بكلّ جماعةٍ أوليّة. ما يعني إعاقة المواطَنة والدفع قدمًا نحو بناء دولة - تجاوزًا - الطوائف والعشائر والجماعات الأوليّة.

تُستبدل الدولة الوطنية بدولة الطوائف وتحلّ الامتيازات محلّ الحقوق وتُقنّن المحاصَصة على حساب الكفاءة

إنّ بقاء المواطنين أسرى الولاءات الأولية وسجناء الهويّات الفرعية، حيث لا تتجاوز حركتهم حدود الطائفة، أو القبيلة، أو العشيرة، أو العزوة، سيُفضي بالضرورة إلى تشكّل جماعات مغلقة وكيانات موازية، نعم ربّما تجمعها حدود جغرافية واحدة تحت مسمّى دولة، إلّا أنّ هذه الدولة يقينًا ليست دولةً بالمعنى الحديث. فالدولة الحديثة هي القادرة على استيعاب المختلفين، وإتاحة المجال لممارسة المواطَنة للجميع من دون استثناء أو تمييز من خلال المؤسّسات الجامعة.

بيْد أنّ ما نراه في واقعنا العربي اليوم في أكثر من سياق، يشير إلى أنّ الدولة القائمة، في هذا السياق أو ذاك، في حقيقتها ما هي إلّا كيان ذو قشرة حديثة، يضمّ جماعات متوازية مغلقة. وأنّ المهمة الأساسيّة لهذه الدولة - في أحسن الأحوال - هي "ضبط التجاور" بين تلك الجماعات، والحيلولة، بقدر الإمكان، دون اشتعال "السجال" بينها، أو تخفيف الإقصاء / النّفي الذي قد يُمارَس فيما بينها، أو منع ما أطلقنا عليه مرّة التشظّي "الهوياتيّ" المدمّر.

لا بدّ لدولنا العربية أن تهيئ فضاءً عامًا لانطلاقة حركية مواطنية تؤسّس لمجتمع إنتاجيّ وديموقراطيّ 

في هذا الإطار، تتمّ إعاقة المواطَنة، وتُستبدل الدولة الوطنية الحديثة القائمة على المواطنية بدولة الطوائف. ومن ثم تحلّ الامتيازات محلّ الحقوق، ويُبدَى التقليد العرفي على النظام القانوني، وتُقنّن المحاصَصة على حساب الكفاءة والاستحقاق... إلخ. وغني عن البيان، ووفق الكثير من الدراسات، إنّ هكذا وضع يواكبه تعثرٌ تنمويّ وتخلفٌ إنتاجيّ، كما يلازمه تكريسٌ للأوضاع الطبقية / الاجتماعية الداخلية لكلّ جماعة، واختلالٌ لميزان العدالة التوزيعية...

وبعد، إنّ المواطنة، وحتى تتحرّر من كل ما يعطّل تحقيقها، وتتجاوز ما يعوقها، لا بدّ لدولنا العربية: دول الندرة / الشقاء، ودول الوفرة / الهناء، على السواء، أن تهيئ فضاءً عامًا لانطلاقة حركية مواطنية تؤسّس لمجتمع إنتاجيّ، وديموقراطيّ، ودستوريّ / قانونيّ، وعصريّ، يتّسم بالعدالة والمساواة والشراكة الوطنية والحريّة والمدنيّة التي هي في غير خصومةٍ مع الدين، في إطار دولة حديثة وطنية جامعة بالفعل شكلًا ومضمونًا.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن