تدفع عوامل عديدة إلى طرح ذلك التساؤل الإشكالي، منها ما هو مباشر وعميق لا يتّسع هذا السياق إلى استحضارها كلّها. لكن يمكن الاكتفاء بالإشارة إلى خطورة الربط الخاطئ الذي يفتعله بعض الأطراف بين المواقف السياسية الرسمية الغربية الداعمة لإسرائيل في مجازرها وإبادتها للفلسطينيين بغزّة و"شيطنة" الحداثة والتيئيس منها. إذ نرى أنّ ذلك الربط الموهوم من أخطر عمليات تزييف الوعي وتضليل الفكر العربي ليستمرّ في غيبوبته الحضارية المزمنة. بينما كان من المفروض توجيه آليات النقد إلى مراجعة الأسباب الحقيقية لحالة التيه والذل التي يعيشها العالم العربي بشكل تراجيدي.
تكفي الإشارة في هذا الصدد إلى معطيين هامين: يتعلّق المعطى الأوّل بالقصور في تحديد مفهوم الحداثة والخلط بينها وبين التحديث، والذهول عن قابليتها لأشكال متعدّدة من التطبيق. فالحداثة ليست ابتكارًا غربيًا محضًا مثلما تروّجه المركزية الثقافية الغربية والدوائر المتقاطعة معها وظيفيًا، وإنّما هي تتويج لمسيرة الحضارة الإنسانية على امتداد تاريخ الكائن الإنساني في سعيه إلى التدرّج والترقّي في مراتب التمدّن والحضارة. وبهذا المعنى لكلّ مجتمع حداثته الخاصّة مثلما أشار إلى ذلك الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور في قراءته للحداثة وللمتخيّلات الاجتماعية.
التحديث في العالم العربي ظلّ بعيدًا عن "الروح" التي أحدثت الثورة التقنية والصناعية والمعلوماتية والاتصالية بالغرب
وهذا الموقف بقدر ما لا يلغي شمولية الحداثة لكلّ المجالات الفكرية والمادية بمختلف تفرّعاتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية، فإنّه يثبت كذلك أنّها مشروع غير مكتمل على حدّ تعبير "هابرماس" تحتاج دومًا إلى مزيد التصحيح والتمحيص والمساءلة النقدية سعيًا للوصول إلى صياغة نموذج أرقى وأمثل لها.
أمّا التحديث فهو التطبيق العملي للفهم الخاص الذي اكتسبه مجتمع ما لمفهوم الحداثة في مسار تاريخي محدّد. ونجد في الحالة العربية - على سبيل الذكر - أنّ التحديث اقترن بالمجال العسكري في مستوى اقتناء أحدث الأسلحة وانتداب الخبراء العسكريين الأوروبيين لتطوير قدرات القوات المسلّحة مثلما تفصح عنه تجربتا محمد علي باشا بمصر وأحمد باي بتونس خلال منتصف القرن التاسع عشر. وهو ما جعل التحديث في العالم العربي لا يتجاوز في أقصى الحالات استيراد المنتجات التقنية والصناعية الغربية. فظلّ بعيدًا كلّ البعد عن "الروح" أو "الفلسفة" أو "الرؤية" التي أحدثت تلك الثورة التقنية والصناعية والمعلوماتية والاتصالية التي حدثت بالغرب على مراحل متتابعة امتدّت على ما لا يقل عن الأربعة قرون الأخيرة.
ولئن لا تقتصر مفارقات الحداثة العربية في ذلك الخلط المشار إليه آنفًا بينها وبين التحديث، فإنّه من الممكن عدّ تطوير المقاومة الفلسطينية بغزة لطرق مواجهتها للكيان الصهيوني شكلًا من أشكال الاستفادة الوظيفية من مكتسبات الحداثة. فاستخدام الطائرات الشراعية المسيّرة عن بُعد وتطوير الصواريخ قصيرة المدى في مواجهة غير متكافئة مع كيان يحظى بدعم كبير من الولايات المتّحدة الأمريكية والقوى الدولية الدائرة في فلكها ضمن الحلف الأطلسي، يمثّل نفاذًا إلى روح الحداثة التي أنتجت تلك التكنولوجيا المتطوّرة بحكم أنّ من أنجزوا ذلك المشروع في تطوير الطائرات الشراعية والصواريخ مجموعة من المهندسين والكفاءات العربية المنخرطين في مقاومة الاحتلال الصهيوني من بينهم المهندس التونسي محمد الزواري الذي اغتالته المخابرات الإسرائيلية بتونس سنة 2016.
وضع الغرب بإسهاماته الكبيرة في تطوير الحضارة الإنسانية في خانة سلبية واحدة ليس إلا شكلًا من أشكال العدمية
إذا أخذنا بعين الاعتبار جملة من المعطيات التاريخية الخاصّة بالصراع العربي الإسرائيلي ومنها نكبة 1948 ونكسة حزيران 1967 التي استطاعت فيها إسرائيل القضاء على القوة الجوية المصرية والاستحواذ على بقية الأراضي الفلسطينية وضم سيناء في ستّة أيّام، فضلًا عن دخول القوات الأمريكية إلى بغداد يوم 9 نيسان/أبريل 2003 دون خسائر تُذكر في مدّة وجيزة، فإنّه يمكن القول بأنّ العمليات الأخيرة للمقاومة الفلسطينية بغزّة التي حملت عنوان "طوفان الأقصى" تشي بوجود تطوّر نوعي في مستوى الفعل وردّ الفعل للمقاومة سواء في مستوى التخطيط العسكري أو تكتيكات إدارة المعارك. فأن يعجز أكبر جيش بمنطقة الشرق الأوسط عدّةً وعتادًا على مدى ما يقارب الثلاثة أشهر عن تحقيق أهدافه المعلنة المتمثّلة في تحرير الرهائن والقضاء على المقاومة المسلّحة بغزّة، يُعدّ مؤشّرًا جديرًا بالبحث والدرس. إذ من الممكن أن يشكّل هذا المؤشّر منعطفًا تاريخيًا مهمًّا في تاريخ الصراع الفلسطيني والإسرائيلي حاضرًا ومستقبلًا.
لا جدال في أنّ عوامل مركّبة أسهمت في ذلك التطوّر النوعي في عمل المقاومة الفلسطينية بالصيغة التي كشفتها عملية "طوفان الأقصى"، إلاّ أنّه من المهمّ التفطّن إلى أنّ العامل الحاسم يتعلّق بما يمكن أن نصطلح عليه بـ"تكنولوجيا المقاومة" اعتمادًا على حسن توظيفها للإمكانيات المحدودة من طائرات صغيرة مسيّرة وصواريخ كانت توصف في وقت ما بلعب الأطفال، وشبكة أنفاق عبارة عن مدينة تحتية للتحصّن والمناورة والاحتفاظ بإمكانية المبادرة. فهذا العامل الذي أدهش الصهاينة والغرب بقدر ما يُعبّر عن تطوّر الفكر الاستراتيجي والرؤية الاستشرافية في مستوى الاستعداد مبكّرًا للحرب قبل حدوثها والتخطيط المتقن لها، فإنّه أقام الدليل على إمكانية تطويع الحداثة ومكتسباتها بما يتلاءم مع شروط اللحظة التاريخية، وينسجم مع خصوصيات المجال التداولي العربي الإسلامي.
يمكن القول استنادًا إلى ما تقدّم ذكره، إنّ الربط القسري الذي يقيمه بعضهم بين مواقف الجهات الغربية النافذة سياسيًا وثقافيًا الداعمة لإسرائيل ومشروع الحداثة ربط مفتعل لن يثمر إلا مزيدًا من تعميق التخلّف العربي وإدامته. وهذا لا يعني أنّ المواقف التي عبّرت عنها القوى السياسية الغربية، بل حتّى بعض أوساط النخبة - التي يُعدّ البيان الشهير الذي أصدره هابرماس بمعية عدد من أقرانه أنموذجًا لها - لا تعكس تثبيتًا للمركزية الغربية والتحيّز المفرط للنموذج الحضاري الغربي، وإنّما على النقيض من ذلك كان يجب أن تدفع إلى مزيد الإصرار على الاستفادة من مكتسبات الحداثة الغربية واجتناب المسارات الخاطئة التي انتهجتها في مستوى اعتماد عقلانية أداتية وتنميط العالم وتشيئته وطمس بقية الأبعاد الروحية والمعنوية للإنسان، فهذا كلّه أمرًا ممكنًا. وليس غريبًا عن الحضارة الإسلامية التي أنجبت عديد العلماء الذين نظروا إلى الإنسان في كلّيته وجوهره الإنساني. ومنهم من تفطّن إلى أنّ التاريخ الإنساني يحكمه قانون التطوّر بناءً على شروط يقتضيها العمران البشري مثلما خلُص إلى ذلك ابن خلدون.
يظلّ تطوير المقاومة وتحويلها إلى فعل حضاري إبداعي في التاريخ خيارًا محتملًا، لكنّه يتطلّب شروطًا لعلّ أهمّها اكتساب التفكير النقدي والعلمي الذي يمثّل بلا شكّ منطلق الحداثة الحقيقية. ولئن يرى بعضهم في هذه المعاني تناقضًا بحكم أنّ الأساس الأيديولوجي لحركة المقاومة الفلسطينية يتمحور حول حركة "حماس" ذات المرجعية الدينية الإسلامية، فإنّه لا شيء يمنع تكامل الإسلام والحداثة إذا طرحنا جانبًا القراءات الحرفية والتحريفية التي صنعت توتّرًا بين ثنائية العقل والنقل أو الرسالة والتاريخ. فالرجوع إلى النصّ التأسيسي الإسلامي المتمثّل في القرآن الكريم كثيرًا ما يجد المتبصّر فيه دعوة صريحة إلى استخدام العقل والتبصّر في ملكوت الله، وإعداد العدّة المادية والعسكرية الكافية لمواجهة الظلم والعدوان لكي لا يستغرق الإنسان في الغيب والماورائيات فـ"ينسى نصيبه من الدنيا".
التاريخ الإنساني محكوم بمنطق التقدّم المتواصل
إنّ إنجاز تلك القراءة التحرّرية للنصوص التأسيسية الإسلامية أمرٌ لا مفرّ منه لتحقيق حداثة مبدعة تنسجم مع خصوصيات المجال التداولي العربي الإسلامي بتعبير صاحب "الحداثة والمقاومة"، كما أنّ عقلنة الموقف من الذات لا يمكن أن يكتمل دون عقلنة الموقف من الآخر باجتناب التعميم والانفعالات الهوجاء التي تغري ولا تجدي. فوضع الغرب بإسهاماته الكبيرة في تطوير الحضارة الإنسانية في خانة سلبية واحدة ليس إلا شكلًا من أشكال العدمية أو الدغمائية، التي غالبًا ما تكون عواقبها كارثية. فبالتوازي مع المواقف السياسية الغربية الرسمية الداعمة للإبادة الصهيونية بغزّة برزت مواقف رافضة لتلك المجازر إلى حدّ شبّهها بعض الملاحظين الغربيين النزهاء بالهولوكوست الفلسطيني أسوة بالهولوكوست اليهودي، الذي تمّ هذه المرّة على أيدي من كانوا يعدّون أنفسهم ضحايا النازية. وقد جابت مسيرات حاشدة عديد العواصم الغربية المتضامنة مع الفلسطينيين، والمندّدة بحرب الإبادة التي يتعرّضون إليها في نقد ضمني وصريح للسياسات الرسمية للحكومات الغربية.
بناءً على كلّ ما تقدّم ذكره، تبدو العلاقة بين المقاومة والحداثة لا يحكمها منطق التصادم المطلق مثلما يروّجه بعض التصوّرات الاختزالية التبسيطية، وإنّما من الممكن بل من الضروري خلق تكامل وانسجام بينهما شريطة النفاذ إلى جوهر الحداثة، الذي لن يتمّ إلا إذا ما تمّ تجاوز التمثّلات التمجيدية المبالغ فيها للذات، وعدم "شيطنة الآخر" الغربي للولوج إلى آفاق إنسانية أرحب، قائمة على أساس إعلاء قيم الحرية والعدل، والارتقاء بالإنسان إلى أعلى مراتب الرقّي الحضاري. وهو مسار تاريخي تحقّقه آتٍ لا ريب فيه رغم كلّ العراقيل والمنغصات. فالتاريخ الإنساني محكوم بمنطق التقدّم المتواصل.
(خاص "عروبة 22")